فصل: فَصْلٌ: أَحْكَامُ الْعِدَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: أَحْكَامُ الْعِدَّةِ:

وَأَمَّا أَحْكَامُ الْعِدَّةِ فَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} قِيلَ: أَيْ لَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَقِيلَ: أَيْ لَا تَعْقِدُوا عَقْدَ النِّكَاحِ حَتَّى يَنْقَضِيَ مَا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنْ الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبَعْدَ الثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِقِيَامِ بَعْضِ الْآثَارِ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ كَالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا، وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ التَّزَوُّجِ لِلْأَجَانِبِ لَا لِلْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ إنَّمَا لَزِمَتْهَا حَقًّا لِلزَّوْجِ لِكَوْنِهَا بَاقِيَةً عَلَى حُكْمِ نِكَاحِهِ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّحْرِيمِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا عَلَى الزَّوْجِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ حَقَّهُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ صَرِيحًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً أَوْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَلِأَنَّهَا زَوْجَةُ الْمُطَلِّقِ لِقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَجُوزُ خِطْبَتُهَا كَمَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ الطَّلَاقِ.
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلِأَنَّ النِّكَاحَ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِقِيَامِ بَعْضِ آثَارِهِ كَالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرْمَةِ وَلِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْخِطْبَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهِ وُقُوفِ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ وَرَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» فَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ أَصْلًا.
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ الْخُرُوجُ مِنْ مَنْزِلِهَا أَصْلًا بِاللَّيْلِ وَلَا بِالنَّهَارِ فَلَا يُمْكِنُ التَّعْرِيضُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَالْإِظْهَارُ بِذَلِكَ بِالْحُضُورِ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا قَبِيحٌ.
وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَيُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ نَهَارًا فَيُمْكِنُ التَّعْرِيضُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ سِوَاهَا، وَالثَّانِي أَنَّ تَعْرِيضَ الْمُطَلَّقَةِ اكْتِسَابُ عَدَاوَةٍ وَبُغْضٍ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إذْ الْعِدَّةُ مِنْ حَقِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ، وَمَعْنَى الْعَدَاوَةِ لَا يَتَقَدَّرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَيِّتِ وَلَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَيْسَتْ لِحَقِّ الزَّوْجِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا يَكُونُ التَّعْرِيضُ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ تَسْبِيبًا إلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبُغْضِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى فَلَمْ يَكُنْ بِهَا بَأْسٌ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ التَّعْرِيضِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي التَّعْرِيضِ أَنَّهُ مَا هُوَ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا إنَّكِ الْجَمِيلَةُ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ وَإِنَّك لَتُعْجِبِينَنِي أَوْ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ نَجْتَمِعَ أَوْ مَا أُجَاوِزُكِ إلَى غَيْرِكِ وَإِنَّكِ لَنَافِعَةٌ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُشَافِهَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا لِلْحَالِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا صَرِيحٌ فِي الْخِطْبَةِ وَبَعْضَهَا صَرِيحٌ فِي إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَخَّصُ هُوَ التَّعْرِيضُ وَهُوَ أَنْ يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الرَّغْبَةَ فِي نِكَاحِهَا بِدَلَالَةٍ فِي الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِهِ إذْ التَّعْرِيضُ فِي اللُّغَةِ هُوَ تَضْمِينُ الْكَلَامِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِهِ بِالْقَوْلِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ لَمَّا اسْتَشَارَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ فَقَالَ لَهَا «إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فَآذِنِينِي فَآذَنَتْهُ فِي رَجُلَيْنِ كَانَا خَطَبَاهَا، فَقَالَ لَهَا: أَمَّا فُلَانٌ فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ وَأَمَّا فُلَانٌ فَإِنَّهُ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، فَهَلْ لَكِ فِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ؟» فَكَانَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آذِنِينِي كِنَايَةَ خِطَابٍ إلَى أَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَصَرَّحَ بِهِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: التَّعْرِيضُ بِالْخِطْبَةِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَمْرِهَا كَذَا وَكَذَا يُعَرِّضُ لَهَا بِالْقَوْلِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا حُرْمَةُ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ لِبَعْضِ الْمُعْتَدَّاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ حُرَّةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً بَالِغَةً أَوْ صَغِيرَةً عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً مُطَلَّقَةً أَوْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالْحَالُ حَالُ الِاخْتِيَارِ أَوْ حَالُ الِاضْطِرَارِ: فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهِيَ حُرَّةٌ مُطَلَّقَةٌ بَالِغَةٌ عَاقِلَةٌ مُسْلِمَةٌ وَالْحَالُ حَالُ الِاخْتِيَارِ فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا أَمَّا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} إلَّا أَنْ تَزْنِيَ فَتَخْرُجَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ هِيَ الْخُرُوجُ نَفْسُهُ أَيْ إلَّا أَنْ يَخْرُجْنَ فَيَكُونَ خُرُوجُهُنَّ فَاحِشَةً، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْأَزْوَاجَ عَنْ الْإِخْرَاجِ وَالْمُعْتَدَّاتِ عَنْ الْخُرُوجِ وقَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ نَهْيٌ عَنْ الْإِخْرَاجِ وَالْخُرُوجِ وَلِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ لَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ وَإِنْ أُذِنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ.
لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخُرُوجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَكَانِ الْعِدَّةِ وَفِي الْعِدَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَمَّةَ لِحَقِّ الزَّوْجِ خَاصَّةً فَيَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ بِالْخُرُوجِ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يَحْتَاجُ إلَى تَحْصِينِ مَائِهِ وَالْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ طَرِيقُ التَّحْصِينِ لِلْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ يُرِيبُ الزَّوْجَ أَنَّهُ وَطِئَهَا غَيْرُهُ فَيَشْتَبِهُ النَّسَبُ إذَا حَبِلَتْ.
وَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَوْ الْبَائِنِ فَلِعُمُومِ النَّهْيِ وَمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَى تَحْصِينِ الْمَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَا تَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ نَهَارًا فِي حَوَائِجِهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ لِاكْتِسَابِ مَا تُنْفِقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ الزَّوْجِ الْمُتَوَفَّى بَلْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِتَحْصِيلِ النَّفَقَةِ، وَلَا تَخْرُجُ بِاللَّيْلِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْخُرُوجِ بِاللَّيْلِ بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ فَإِنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى الزَّوْجِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ حَتَّى لَوْ اخْتَلَعَتْ بِنَفَقَةِ عِدَّتِهَا، بَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا؛ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ بِالنَّهَارِ لِلِاكْتِسَابِ؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: لَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَبْطَلَتْ النَّفَقَةَ بِاخْتِيَارِهَا وَالنَّفَقَةُ حَقٌّ لَهَا فَتَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِهِ، فَأَمَّا لُزُومُ الْبَيْتِ فَحَقٌّ عَلَيْهَا فَلَا تَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَإِذَا خَرَجَتْ بِالنَّهَارِ فِي حَوَائِجِهَا لَا تَبِيتُ عَنْ مَنْزِلِهَا الَّذِي تَعْتَدُّ فِيهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ فُرَيْعَةَ أُخْتَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قُتِلَ زَوْجُهَا أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي الِانْتِقَالِ إلَى بَنِي خُدْرَةَ فَقَالَ لَهَا: اُمْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَمَّا اسْتَأْذَنَتْ أَذِنَ لَهَا ثُمَّ دَعَاهَا فَقَالَ: أَعِيدِي الْمَسْأَلَةَ فَأَعَادَتْ فَقَالَ: لَا، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» أَفَادَنَا الْحَدِيثُ حُكْمَيْنِ: إبَاحَةُ الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ، وَحُرْمَةُ الِانْتِقَالِ حَيْثُ لَمْ يُنْكِرْ خُرُوجَهَا وَمَنَعَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الِانْتِقَالِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ، وَرَوَى عَلْقَمَةُ أَنَّ نِسْوَةً مِنْ هَمْدَانَ نُعِيَ إلَيْهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ فَسَأَلْنَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْنَ إنَّا نَسْتَوْحِشُ فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَجْتَمِعْنَ بِالنَّهَارِ فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ فَلْتَرُحْ كُلُّ امْرَأَةٍ إلَى بَيْتِهَا وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَنَامَ عَنْ بَيْتِهَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةٌ عَنْ الْكَوْنِ فِي الْبَيْتِ أَكْثَرَ اللَّيْلِ، فَمَا دُونَهُ لَا يُسَمَّى بَيْتُوتَةً فِي الْعُرْفِ، وَمَنْزِلُهَا الَّذِي تُؤْمَرُ بِالسُّكُونِ فِيهِ لِلِاعْتِدَادِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ قَبْلَ مُفَارَقَةِ زَوْجِهَا وَقَبْلَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ سَاكِنًا فِيهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الْبَيْتَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وَالْبَيْتُ الْمُضَافُ إلَيْهَا هُوَ الَّذِي تَسْكُنُهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهَا إذَا زَارَتْ أَهْلَهَا فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهَا الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُ فِيهِ فَتَعْتَدَّ ثَمَّةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ.
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهَا بِأَنْ خَافَتْ سُقُوطَ مَنْزِلِهَا أَوْ خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا أَوْ كَانَ الْمَنْزِلُ بِأُجْرَةٍ وَلَا تَجِدُ مَا تُؤَدِّيهِ فِي أُجْرَتِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَلَا بَأْسَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ تَنْتَقِلَ، وَإِنْ كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى الْأُجْرَةِ لَا تَنْتَقِلُ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْزِلُ لِزَوْجِهَا وَقَدْ مَاتَ عَنْهَا فَلَهَا أَنْ تَسْكُنَ فِي نَصِيبِهَا إنْ كَانَ نَصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ مَا تَكْتَفِي بِهِ فِي السُّكْنَى وَتَسْتَتِرُ عَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا لَا يَكْفِيهَا أَوْ خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا مِنْهُمْ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَنْتَقِلَ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَالْعِبَادَاتُ تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَقَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُمَّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِجَارَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَقَلَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قُتِلَ طَلْحَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِانْتِقَالِ لِلْعُذْرِ، وَإِذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى أُجْرَةِ الْبَيْتِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَلَا عُذْرَ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهَا الْعِبَادَةُ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا قَدَرَ عَلَى شِرَاءِ الْمَاءِ بِأَنْ وَجَدَ ثَمَنَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الشِّرَاءُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لَا يَجِبُ لِعُذْرِ الْعَدَمِ.
كَذَا هَاهُنَا، وَإِذَا انْتَقَلَتْ لِعُذْرٍ يَكُونُ سُكْنَاهَا فِي الْبَيْتِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهَا فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي انْتَقَلَتْ مِنْهُ فِي حُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْأَوَّلِ إلَيْهِ كَانَ لِعُذْرٍ فَصَارَ الْمَنْزِلُ الَّذِي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ كَأَنَّهُ مَنْزِلُهَا مِنْ الْأَصْلِ فَلَزِمَهَا الْمُقَامُ فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَكَذَا لَيْسَ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقِ ثَلَاثٍ أَوْ بَائِنٍ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا الَّذِي تَعْتَدُّ فِيهِ إلَى سَفَرٍ إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهِيَ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَ{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: هُنَّ كِنَايَةٌ عَنْ الْمُعْتَدَّاتِ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ زَالَتْ بِالثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهَا، وَكَذَا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى سَفَرٍ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرَ حَجٍّ فَرِيضَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لَا مَعَ زَوْجِهَا وَلَا مَعَ مَحْرَمٍ غَيْرِهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا أَوْ يُرَاجِعَهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ خُرُوجٍ وَخُرُوجٍ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَلَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَمَّا مَنَعَتْ أَصْلَ الْخُرُوجِ فَلَأَنْ تُمْنَعَ مِنْ خُرُوجٍ مَدِيدٍ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ السَّفَرِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا اسْتَوَى فِيهِ سَفَرُ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ حَجُّ الْإِسْلَامِ فَرْضًا؛ لِأَنَّ الْمُقَامَ فِي مَنْزِلِهَا وَاجِبٌ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسَفَرُ الْحَجِّ وَاجِبٌ يُمْكِن تَدَارُكُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمُرِ وَقْتُهُ فَكَانَ تَقْدِيمَ وَاجِبٍ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بَعْدَ الْفَوْتِ جَمْعًا بَيْنَ الْوَاجِبِينَ فَكَانَ أَوْلَى، وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُسَافِرَ بِهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَهُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي تَخْرِيجِ قَوْلِ زُفَرَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ عَدَمٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَ الْحَالُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَبَعْدَهَا سَوَاءً.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَةَ بِهَا رَجْعَةٌ عِنْدَهُ دَلَالَةً، وَوَجْهُهُ أَنَّ إخْرَاجَ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ حَرَامٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الرَّجْعَةُ لَمْ يُسَافِرْ بِهَا ظَاهِرًا تَحَرُّزًا عَنْ الْحَرَامِ فَيَجْعَلُ الْمُسَافِرَةَ بِهَا رَجْعَةً دَلَالَةً حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْقُبْلَةَ وَاللَّمْسَ عَنْ شَهْوَةٍ رَجْعَةً، كَذَا هَذَا وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ الْإِخْرَاجِ وَالنِّسَاءَ عَنْ الْخُرُوجِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ فَسَادُ التَّخْرِيجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ الْعُزَيْرِ يَقْتَضِي حُرْمَةَ إخْرَاجِ الْمُعْتَدَّةِ وَإِنْ كَانَ مِلْكُ النِّكَاحِ قَائِمًا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُسَافِرْ بِهَا؛ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ غَيْرُ زَوْجٍ وَهُوَ زَوْجٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْرَمِ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} وَأَمَّا التَّخْرِيجُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّ مُسَافَرَةَ الزَّوْجِ بِهَا دَلَالَةُ الرَّجْعَةِ فَمَمْنُوعٌ وَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ تَحَرُّزًا عَنْ الْحَرَامِ فَذَلِكَ فِيمَا كَانَ النَّهْيُ فِي التَّحْرِيمِ ظَاهِرًا، فَأَمَّا فِيمَا كَانَ خَفِيًّا فَلَا، وَحُرْمَةُ إخْرَاجِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ مَعَ قِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِمَّا لَا يَخْفَى عَنْ الْفُقَهَاءِ فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ فَلَا يَثْبُتُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ مَعَ مَا أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يُرَاجِعُهَا نَصًّا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالدَّلَالَةِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا.
وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمُسَافَرَةُ بِهَا دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ فَلَوْ أَخْرَجَهَا لَأَخْرَجَهَا مَعَ قِيَامِ الْعِدَّةِ وَهَذَا حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ خَرَجَتْ مُحْرِمَةً فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنَّهَا تَرْجِعُ وَتَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ الْمُضِيِّ فِي حَجِّهَا لِمَكَانِ الْعِدَّةِ، فَأَمَّا إذَا رَاجَعَهَا الزَّوْجُ فَقَدْ بَطَلَتْ الْعِدَّةُ وَعَادَتْ الزَّوْجِيَّةُ فَجَازَ لَهُ السَّفَرُ بِهَا، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي حُرْمَةِ الْخُرُوجِ وَالْإِخْرَاجِ إلَى السَّفَرِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ لِعُمُومِ النَّهْيِ إلَّا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْإِخْرَاجِ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ أَخَفُّ لِخِفَّةِ الْخُرُوجِ وَالْإِخْرَاجِ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا خَرَجَ مَعَ امْرَأَتِهِ مُسَافِرًا فَطَلَّقَهَا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا رَجَعَتْ إلَى مِصْرِهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ مَضَتْ لَاحْتَاجَتْ إلَى إنْشَاءِ سَفَرٍ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ، وَلَوْ رَجَعَتْ مَا احْتَاجَتْ إلَى ذَلِكَ فَكَانَ الرُّجُوعُ أَوْلَى كَمَا إذَا طَلُقَتْ فِي الْمِصْرِ خَارِجَ بَيْتِهَا أَنَّهَا تَعُودُ إلَى بَيْتِهَا، كَذَا هَذَا.
وَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّهَا تَمْضِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُضِيِّ إنْشَاءُ سَفَرٍ، وَفِي الرُّجُوعِ إنْشَاءُ سَفَرٍ وَالْمُعْتَدَّةُ مَمْنُوعَةٌ عَنْ السَّفَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ كَالْمَفَازَةِ وَنَحْوِهَا أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ لَهَا كَالْمِصْرِ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ بِأَنْ خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ مَتَاعِهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا عَادَتْ أَوْ مَضَتْ فَبَلَغَتْ أَدْنَى الْمَوَاضِعِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إلَى الَّتِي تَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ فِي مُضِيِّهَا أَوْ رُجُوعِهَا، أَقَامَتْ فِيهِ وَاعْتَدَّتْ إنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ وَجَدَتْ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الطَّلَاقُ فِيهِ ابْتِدَاءً لَكَانَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَجَاوَزَهُ عِنْدَهُ، وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا فَكَذَا إذَا وَصَلَتْ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
تُقِيمُ فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَلَا تَخْرُجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إلَّا مَعَ مَحْرَمٍ، حَجًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ مَضَتْ عَلَى سَفَرِهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْخُرُوجِ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ بَلْ لِمَكَانِ السَّفَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَقْصِدِهَا وَمَنْزِلِهَا مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ لِلْعِدَّةِ لَا تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَغَيْرِ السَّفَرِ، وَإِذَا كَانَتْ الْحُرْمَةُ لِمَكَانِ السَّفَرِ تَسْقُطُ بِوُجُودِ الْمَحْرَمِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ مَانِعَةٌ مِنْ الْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ هاهنا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخُرُوجٍ مُبْتَدَإٍ بَلْ هُوَ خُرُوجٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخُرُوجِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مُبْتَدَأٌ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا مَسِيرَةُ سَفَرٍ كَانَتْ مُنْشِئَةً لِلْخُرُوجِ بِاعْتِبَارِ السَّفَرِ فَيَتَنَاوَلُهُ التَّحْرِيمُ، وَمَا حُرِّمَ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ لَا يَسْقُطُ بِوُجُودِ الْمَحْرَمِ.
(وَأَمَّا) الْمُعْتَدَّةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعِدَّةِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْكَامِ النِّكَاحِ بَلْ هِيَ أَحْكَامُ النِّكَاحِ السَّابِقِ فِي الْحَقِيقَةِ بَقِيَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْمَنْعَ مِنْ الْخُرُوجِ فَكَذَا الْعِدَّةُ إلَّا إذَا مَنَعَهَا الزَّوْجُ لِتَحْصِينِ مَائِهِ فَلَهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْأَمَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُسْتَسْعَاةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَخْرُجْنَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ: أَمَّا الْأَمَةُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَالِ النِّكَاحِ وَلَا يَلْزَمُهَا الْمُقَامُ فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا فِي حَالِ النِّكَاحِ كَذَا فِي حَالِ الْعِدَّةِ؛ وَلِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى فَلَوْ مَنَعْنَاهَا مِنْ الْخُرُوجِ لَأَبْطَلْنَا حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْخِدْمَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا مَنْزِلًا فَحِينَئِذٍ لَا تَخْرُجُ مَا دَامَتْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يُخْرِجَهَا فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا كَانَ أَعَارَهَا لِلزَّوْجِ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَارِيَّةُ؛ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ النِّكَاحِ مُرَتَّبَةٌ عَلَيْهَا وَلَوْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى فِي حَالِ النِّكَاحِ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ حَتَّى يَبْدُوَ لِلْمَوْلَى فَكَذَا فِي حَالِ الْعِدَّةِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْأَمَةِ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَكَانَ الْمَوْلَى مُسْتَغْنِيًا عَنْ خِدْمَتِهَا فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إذَا جَازَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِإِذْنِهِ جَازَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِكُلِّ وَجْهٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الْخُرُوجِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ لَزِمَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِإِذْنِهِ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا لِأَنَّهَا أَمَةُ الْمَوْلَى وَكَذَا إذَا عَتَقَتْ أَوْ مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا لَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا عِدَّةُ وَطْءٍ فَكَانَتْ كَالْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا.
وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَلِأَنَّ سِعَايَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى إذْ بِهَا يَصِلُ الْمَوْلَى إلَى حَقِّهِ فَلَوْ مَنَعْنَاهَا مِنْ الْخُرُوجِ لَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ، وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا حُرَّةٌ، وَلَوْ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ فِي الْعِدَّةِ يَلْزَمُهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا مَا يَلْزَمُ الْحُرَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْخُرُوجِ قَدْ زَالَ.
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ لَا رَجْعَةَ فِيهَا، سَوَاءٌ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ السُّكْنَى فِي الْبَيْتِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الزَّوْجِ، وَحَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ، وَحَقُّ الزَّوْجِ فِي حِفْظِ الْوَلَدِ، وَلَا وَلَدَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ رَجْعِيَّةً فَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ، وَكَذَا الْمَجْنُونَةُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ كَالصَّغِيرَةِ إلَّا أَنَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ مَنْعَهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي حَقِّ الْمَجْنُونَةِ لِصِيَانَةِ الْمَاءِ لِاحْتِمَالِ الْحَبَلِ، وَالصَّغِيرَةُ لَا تَحْبَلُ وَالْمَنْعُ مِنْ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِكَوْنِهَا زَوْجَتَهُ.
وَأَمَّا الْكِتَابِيَّةُ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهٍ فَتَكُونُ عِبَادَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْكُفَّارُ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ إلَّا إذَا مَنَعَهَا الزَّوْجُ مِنْ الْخُرُوجِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ حَقٌّ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ صِيَانَةُ مَائِهِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ فَإِنْ أَسْلَمَتْ الْكِتَابِيَّةُ فِي الْعِدَّةِ لَزِمَهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْعِدَّةِ مَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَةَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ اللُّزُومِ هُوَ الْكُفْرُ وَقَدْ زَالَ بِالْإِسْلَامِ، وَكَذَا الْمَجُوسِيَّةُ إذَا أَسْلَمَ زَوْجُهَا وَأَبَتْ الْإِسْلَامَ حَتَّى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا لَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِمَا قُلْنَا، إلَّا إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ مَنْعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ، فَإِذَا طَلَبَ مِنْهَا ذَلِكَ يَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ يَجِبُ إبْقَاؤُهُ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَلَوْ قَبَّلَتْ الْمُسْلِمَةُ ابْنَ زَوْجِهَا حَتَّى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ بِلَا مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فَلَوْ شُرِطَ لَهُ الْمَحْرَمُ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَسِيرَةِ سَفَرٍ إلَّا مَعَ الْمَحْرَمِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْهَا» وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْرَمُ مِنْ النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ أَوْ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَإِنْ وَرَدَ فِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَحْرَمِيَّةُ وَهُوَ حُرْمَةُ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّأْبِيدِ وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَارِدٌ فِي الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ دَلَالَةً.
وَمِنْهَا وُجُوبُ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي تَفْسِيرِ الْإِحْدَادِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِحْدَادَ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ أَوَّلًا، وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِحْدَادُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الِامْتِنَاعِ مِنْ الزِّينَةِ، يُقَالُ: أَحَدَّتْ عَلَى زَوْجِهَا وَحَدَّتْ أَيْ امْتَنَعَتْ مِنْ الزِّينَةِ وَهُوَ أَنْ تَجْتَنِبَ الطِّيبَ وَلُبْسَ الْمُطَيَّبِ وَالْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ، وَتَجْتَنِبَ الدُّهْنَ وَالْكُحْلَ وَلَا تَخْتَضِبَ وَلَا تَمْتَشِطَ وَلَا تَلْبَسَ حُلِيًّا وَلَا تَتَشَوَّفَ.
أَمَّا الطِّيبُ فَلِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحِنَّاءُ طِيبٌ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ الطِّيبِ، وَلِأَنَّ الطِّيبَ فَوْقَ الْحِنَّاءِ فَالنَّهْيُ عَنْ الْحِنَّاءِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الطِّيبِ دَلَالَةً، كَالنَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ نَهِيٌّ عَنْ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ دَلَالَةً، وَكَذَا لُبْسُ الثَّوْبِ الْمُطَيَّبِ وَالْمَصْبُوغِ بِالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ كَالطِّيبِ وَأَمَّا الدُّهْنُ فَلِمَا فِيهِ مِنْ زِينَةِ الشَّعْرِ، وَفِي الْكُحْلِ زِينَةُ الْعَيْنِ وَلِهَذَا حُرِّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَمِيعُ ذَلِكَ وَهَذَا فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، فَأَمَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِأَنْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَكْتَحِلَ أَوْ اشْتَكَتْ رَأْسَهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ تَصُبَّ فِيهِ الدُّهْنَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إلَّا ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَهُ لَكِنْ لَا تَقْصِدُ بِهِ الزِّينَةَ؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَ الْقَصَبَ وَالْخَزَّ الْأَحْمَرَ وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: وَلَا تَلْبَسُ قَصَبًا وَلَا خَزًّا تَتَزَيَّنُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخَزَّ وَالْقَصَبَ قَدْ يُلْبَسُ لِلزِّينَةِ وَقَدْ يُلْبَسُ لِلْحَاجَةِ وَالرَّفَاءِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْقَصْدُ، فَإِنْ قُصِدَ بِهِ الزِّينَةُ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ جَازَ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ لَا فَنَقُولُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا يَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ.
وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: لَا إحْدَادَ عَلَيْهَا، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِالْأَحَادِيثِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا بَلَغَهَا مَوْتُ أَبِيهَا أَبِي سُفْيَانَ انْتَظَرَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ دَعَتْ بِطِيبٍ.
وَقَالَتْ: مَا لِي إلَى الطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، لَكِنْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً مَاتَ زَوْجُهَا فَجَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَأْذِنُهُ فِي الِانْتِقَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ إحْدَاكُنَّ كَانَتْ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُلْقِي الْبَعْرَةَ أَفَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» فَدَلَّ الْحَدِيثُ أَنَّ عِدَّتَهُنَّ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَتْ حَوْلًا وَأَنَّهُنَّ كُنَّ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهِنَّ مُدَّةَ الْحَوْلِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ مَا زَادَ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ، وَهُوَ أَنْ تَمْكُثَ الْمُعْتَدَّةُ هَذِهِ الْمُدَّةَ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا، وَهَذَا تَفْسِيرُ الْحِدَادِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِنَا وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا قَالَ أَصْحَابُنَا: يَلْزَمُهَا الْحِدَادُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهَا الْحِدَادُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحِدَادَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إنَّمَا وَجَبَ لِحَقِّ الزَّوْجِ تَأَسُّفًا عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَإِدَامَةِ الصُّحْبَةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُطَلَّقَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَوْحَشَهَا بِالْفُرْقَةِ وَقَطَعَ الْوُصْلَةَ بِاخْتِيَارٍ وَلَمْ يَمُتْ عَنْهَا فَلَا يَلْزَمُهَا التَّأَسُّفُ، وَلَنَا أَنَّ الْحِدَادَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لِفَوَاتِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ فِي الدِّينِ خَاصَّةً فِي حَقِّهَا لِمَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ شَهْوَتِهَا وَعِفَّتِهَا عَنْ الْحَرَامِ وَصِيَانَةِ نَفْسِهَا عَنْ الْهَلَاكِ بِدُرُورِ النَّفَقَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَوْتِ فَلَزِمَهَا الْإِحْدَادُ إظْهَارًا لِلْمُصِيبَةِ وَالْحُزْنِ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ وَالْمُبَانَةِ فَيَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ، وَقَوْلُهُ: الْإِحْدَادُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَجَبَ لِحَقِّ الزَّوْجِ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَقِّ الزَّوْجِ لَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا فِي مَوْتِ الْأَبِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فِي شَرَائِطِ وُجُوبِهِ فَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْمُعْتَدَّةُ بَالِغَةً عَاقِلَةً مُسْلِمَةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَوْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ الْكَبِيرَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَالْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ؛ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحِدَادَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ وَقَدْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فَيَلْزَمُهَا حُكْمُهَا، وَلَنَا أَنَّ الْحِدَادَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَافِرَةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِمُضِيِّ زَمَانٍ وَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالُوا: لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا الْعِدَّةُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَتَزَوَّجَهُمَا وَلَا إحْدَادَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْ الْوَطْءِ كَالْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا وَلَا إحْدَادَ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَكَذَا عَلَيْهَا وَلَا إحْدَادَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ إظْهَارًا لِلْمُصِيبَةِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ غَيْرُ فَائِتٍ بَلْ هُوَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَجِبُ الْحِدَادُ بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لِتَحْسُنَ فِي عَيْنِ الزَّوْجِ فَيُرَاجِعَهَا وَلَا إحْدَادَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِعْمَةٍ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَمِنْ الْمُحَالِ إيجَابُ إظْهَارِ الْمُصِيبَةِ عَلَى فَوَاتِ الْمَعْصِيَةِ بَلْ الْوَاجِبُ إظْهَارُ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ عَلَى فَوَاتِهَا.
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْإِحْدَادِ فَيَجِبُ عَلَى الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَمَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُسْتَسْعَاةِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ لَهُ الْحِدَادُ لَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَتْ الْأَمَةُ فِيهِ كَالْحُرَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَهُوَ مُؤْنَةُ السُّكْنَى لِبَعْضِ الْمُعْتَدَّاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إمَّا إنْ كَانَتْ عَنْ طَلَاقٍ أَوْ عَنْ فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ عَنْ وَفَاةٍ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ الْفَاسِدِ: فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ عَنْ طَلَاقٍ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ الْحَالُ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ وَلِمَا نَذْكُرُ مِنْ دَلَائِلَ أُخَرَ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى إنْ كَانَتْ حَامِلًا بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} خَصَّ الْحَامِلَ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَلَوْ وَجَبَ الْإِنْفَاقُ عَلَى غَيْرِ الْحَامِلِ لَبَطَلَ التَّخْصِيصُ.
وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَجْعَلْ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى» وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْمِلْكِ، وَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ بِالثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: عَرَفْتُ وُجُوبَ السُّكْنَى فِي الْحَامِلِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْبَائِنِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ لَكِنَّ إحْدَاهُمَا تَفْسِيرُ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْمَانَهُمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَةِ بَلْ قِرَاءَتُهُ تَفْسِيرُ الْقِرَاءَةِ الظَّاهِرَةِ كَذَا هَذَا.
وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ لَا تَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِ النَّفَقَةِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ وَلَا مَالَ لَهَا لَهَلَكَتْ، أَوْ ضَاقَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا وَعَسُرَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وقَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ قَبْلَ الطَّلَاقِ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ الِاحْتِبَاسُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ وَتَأَبَّدَ بِانْضِمَامِ حَقِّ الشَّرْعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ قَبْلَ الطَّلَاقِ كَانَ حَقًّا لِلزَّوْجِ عَلَى الْخُلُوصِ وَبَعْدَ الطَّلَاقِ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الشَّرْعِ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهَا الْخُرُوجُ، وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا بِالْخُرُوجِ فَلِمَا وَجَبَتْ بِهِ النَّفَقَةُ قَبْلَ التَّأَكُّدِ فَلَأَنْ تَجِبَ بَعْدَ التَّأَكُّدِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْإِنْفَاقِ عَلَى غَيْرِ الْحَامِلِ وَلَا يُوجِبُهُ أَيْضًا فَيَكُونُ مَسْكُونًا مَوْقُوفًا عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَدْ رَدَّهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا رَوَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا وَنَأْخُذُ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ لَهَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ، كَمَا هُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَكُونُ هَذَا قِرَاءَةَ عُمَرَ أَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} مُطْلَقًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا فِي السُّكْنَى خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} كَمَا هُوَ الْقِرَاءَةُ الظَّاهِرَةُ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُنَّةَ نَبِيِّنَا مَا رُوِيَ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا تِلَاوَةٌ رُفِعَتْ عَيْنُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا تِلْكَ الْآيَةَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي بَابِ الزِّنَا: كُنَّا نَتْلُوا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، ثُمَّ رُفِعَتْ التِّلَاوَةُ وَبَقِيَ حُكْمُهَا.
كَذَا هاهنا وَرُوِيَ أَنَّ زَوْجَهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ إذَا سَمِعَهَا تَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ حَصَبَهَا بِكُلِّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لَهَا: لَقَدْ فَتَنْتِ النَّاسَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَقَلُّ أَحْوَالِ إنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى رَاوِي الْحَدِيثِ أَنْ يُوجِبَ طَعْنًا فِيهِ، ثُمَّ قَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ إنَّهَا كَانَتْ تَبْدُو عَلَى أَحْمَائِهَا أَيْ تَفْحُشُ عَلَيْهِمْ بِاللِّسَانِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَذَوْتُ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ فَحُشْتُ عَلَيْهِ، أَيْ كَانَتْ تُطِيلُ لِسَانَهَا عَلَيْهِمْ بِالْفُحْشِ فَنَقَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ إذْ كَانَ سَبَبُ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا فِي عِدَّتِهَا أَوْ كَانَ مِنْهَا سَبَبٌ أَوْجَبَ الْخُرُوجَ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مَا دَامَتْ فِي بَيْتِ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَقِيلَ: إنَّ زَوْجَهَا كَانَ غَائِبًا فَلَمْ يُقْضَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ لِغَيْبَتِهِ؛ إذْ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ إلَى الشَّامِ وَقَدْ كَانَ وَكَّلَ أَخَاهُ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُ بِطَلَاقِهَا وَلَمْ يُوَكِّلْهُ بِالْخُصُوصِيَّةِ، وَقَوْلُهُمَا إنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لَهَا بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ لِلْمِلْكِ ضَمَانًا آخَرَ وَهُوَ الْمَهْرُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالِاحْتِبَاسِ، وَقَدْ بَقِيَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ فَتَبْقَى النَّفَقَةُ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى لِلْأَمَةِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ إذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا الْمَوْلَى بَيْتًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا الْمَوْلَى بَيْتًا فَحَقُّ الْحَبْسِ لَمْ يَثْبُتْ لِلزَّوْجِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَدْ بَوَّأَهَا بَيْتًا فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحَبْسِ لِلزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا طَلَّقَهُمَا وَبَوَّأَهُمَا الْمَوْلَى بَيْتًا أَوْ لَمْ يُبَوِّئْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَمَةٌ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ وَالْمُسْتَسْعَاةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ أُعْتِقَتْ أَمُّ الْوَلَدِ أَوْ مَاتَ عَنْهَا مَوْلَاهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْبُوسَةٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فَلَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا كَعِدَّةِ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا، هَذَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَلَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ النِّكَاحِ وَلَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَكَذَا فِي الْعِدَّةِ مِنْهُ، هَذَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَإِنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى كَيْفَمَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَلِهَا فَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ كَالْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ إذَا اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ كَالْمُسْلِمَةِ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ قَالُوا: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَهَا السُّكْنَى؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ مُسْلِمَةٌ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَتَجِبُ حَقًّا لَهَا عَلَى الْخُلُوصِ فَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَدْ أَبْطَلَتْ حَقَّ نَفْسِهَا بِخِلَافِ الْمُعْتَقَةِ وَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ مِنْ قِبَلِهِمَا بِحَقٍّ فَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ، هَذَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ عَنْ فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ فَلَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ فِي مَالِ الزَّوْجِ سَوَاءٌ كَانَتْ حَائِلًا أَوْ حَامِلًا فَإِنَّ النَّفَقَةَ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا تَجِبُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَالْمَهْرِ وَإِنَّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ مُرُورِ الزَّمَانِ، فَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ انْتَقَلَ مِلْكُ أَمْوَالِهِ إلَى الْوَرَثَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَجِبَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي مَالِ الْوَرَثَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً، مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ الْكَبِيرَةَ لَمَّا لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى، وَكَذَا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فِي الْوَفَاةِ لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُسْتَحَقَّانِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ فَبِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا ثُبُوتُ النَّسَبِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْأَصْلِ:.
أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ فِيهِ نَسَبُ وَلَدِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ الْمُدَّةِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُهُ مِنْ الْحُجَّةِ أَيْ يَظْهَرُ بِهِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثِينَ شَهْرًا مُدَّةَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جَمِيعًا ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْفِصَالَ وَهُوَ الْفِطَامُ فِي عَامَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فَيَبْقَى لِلْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال مَنْقُولٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَجْمِهَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَا إنَّهُ لَوْ خَاصَمْتُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ لَخَصَمْتُكُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَدَلَّ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَكْثَرَهَا سَنَتَانِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «لَا يَبْقَى الْوَلَدُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ» وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ هَذَا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلَا يُظَنُّ بِهَا أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ جُزَافًا وَتَخْمِينًا فَتَعَيَّنَ السَّمَاعُ، وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ لَمْ تَلْزَمْهَا الْعِدَّةُ بِأَنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا فَنَسَبُ وَلَدِهَا لَا يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ إلَّا إذَا عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَكُلُّ مُطَلَّقَةٍ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَنَسَبُ وَلَدِهَا يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ إلَّا إذَا عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُوجِبُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ فَكَانَ النِّكَاحُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ زَائِلًا بِيَقِينٍ، وَمَا زَالَ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ وُجِدَ فِي حَالِ الْفِرَاشِ وَأَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ إذْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَكَانَ مِنْ وَطْءٍ وُجِدَ عَلَى فِرَاشِ الزَّوْجِ، وَكَوْنُ الْعُلُوقِ فِي فِرَاشِهِ يُوجِبُ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُ، فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يُسْتَيْقَنْ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى الْفِرَاشِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَالْفِرَاشُ كَانَ زَائِلًا بِيَقِينٍ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُول بِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُذْ طَلَّقَهَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِتَيَقُّنِنَا بِعُلُوقِهِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَلْزَمُهُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِذَلِكَ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الْحُكْمِ ذَوَاتُ الْأَقْرَاءِ وَذَوَاتُ الْأَشْهُرِ لِمَا قُلْنَا.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلُقَتْ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ أَنَّهَا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَقِيبَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَوْقَعَهُ كَذَلِكَ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: فَهِيَ طَالِقٌ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا تَرَاخِي.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَرُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ ثُمَّ رَجَعَ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ بِعَقْدِ إمْكَانٍ بِوَطْءٍ وَلَمْ يُوجَدْ؛ إذْ لَيْسَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ زَمَانٌ يَسَعُ فِيهِ الْوَطْءَ بَلْ كَمَا وُجِدَ النِّكَاحُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَقِيبَهُ بِلَا فَصْلٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوَطْءُ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَإِنَّا نَقُولُ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ بِأَنْ كَانَ يُخَالِطُ امْرَأَةً فَدَخَلَ الرِّجَالُ عَلَيْهِ فَتَزَوَّجَهَا وَهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَهُ وَأَنْزَلَ مِنْ سَاعَتِهِ وَإِذَا تُصُوِّرَ الْوَطْءُ فَالنِّكَاحُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَطْءِ الْمُنْزِلِ عِنْدَ تَصَوُّرِهِ شَرْعًا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِأَنَّا عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ لِوَطْءٍ وُجِدَ قَبْلَ النِّكَاحِ.
ثُمَّ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرٌ كَامِلٌ.
كَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ، نِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَمَهْرٌ كَامِلٌ بِالدُّخُولِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُجْعَلَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا كَمَا تَزَوَّجَ فَيَجِبُ نِصْفُ مَهْرٍ لِوُجُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ يُجْعَلُ وَاجِبًا بَعْدَ الدُّخُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ؛ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ تَعْلِيقَ النِّكَاحِ بِالْمِلْكِ لَا يَصْلُحُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَيَجِبُ الْمَهْرُ بِهَذَا الْوَطْءِ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُجْتَهَدٌ فِيهَا فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ زِنًا إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ: لَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهَا كَالْمَدْخُولِ بِهَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَيَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ.
وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمُعْتَدَّةِ أَنْ يُقَالَ: الْمُعْتَدَّةُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ، وَإِمَّا إنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ وَفَاةٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ لَمْ تُقِرَّ، فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ فَالطَّلَاقُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَائِنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا، فَإِنْ كَانَ بَائِنًا وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَلَمْ تَكُنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ إلَى سَنَتَيْنِ عِنْدَ الطَّلَاقِ لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ وُجِدَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ وَكَانَتْ حَامِلًا وَقْتَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ إلَى سَنَتَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الِاحْتِمَالَيْنِ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ، وَحَمْلُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ؛ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ أَوْ نَقُولُ النِّكَاحُ كَانَ قَائِمًا بِيَقِينٍ وَالْفِرَاشُ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ لِقِيَامِ النِّكَاحِ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ فَإِذَا كَانَ احْتِمَالُ الْعُلُوقِ عَلَى الْفِرَاشِ قَائِمًا لَمْ نَسْتَيْقِنْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَزَوَالِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ نَسْتَيْقِنْ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ فَلَا نَحْكُمُ بِالزَّوَالِ بِالشَّكِّ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إنْ أَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ مَا لَمْ يَدَّعِ فَإِذَا ادَّعَى ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُهَا فِيهِ؟ رِوَايَتَانِ، وَاخْتُلِفَ فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ بِانْقِضَائِهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَتَرُدُّ مَا أَخَذَتْ مِنْ نَفَقَتِهِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَا تَرُدُّ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ بِشُهْبَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الزَّوْجَ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فَلَا تَرُدُّ النَّفَقَةَ بِالشَّكِّ، وَلَهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ لابد وَأَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ وَطِئَهَا؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ وَلَا عَلَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ أَيْضًا، وَظَاهِرُ حَالِ الْمُسْلِمِ التَّحَرُّجُ عَنْ الْحَرَامِ فَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى وَطْءٍ حَلَالٍ وَهُوَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ وَتَزَوَّجَتْ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَوَجَبَ رَدُّ نَفَقَةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ عَلَى أَنَّا إنْ حَمَلْنَا عَلَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ تَسْقُطُ النَّفَقَةُ عَنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمَنْكُوحَةِ إذَا تَزَوَّجَتْ فَحَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فِي سَنَتَيْنِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ أَقَرَّتْ لَزِمَهُ أَيْضًا، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مُصَدَّقَةٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إذْ الشَّرْعُ ائْتَمَنَهَا عَلَى ذَلِكَ فَتُصَدَّقُ مَا لَمْ يَظْهَرْ غَلَطُهَا أَوْ كَذِبُهَا بِيَقِينٍ فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ظَهَرَ غَلَطُهَا أَوْ كَذِبُهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ إذْ الْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِقْرَارُهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ يَكُونُ غَلَطًا أَوْ يَكُونُ كَذِبًا إذْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ الْخَبَرِ لَا عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَهَذَا حَدُّ الْكَذِبِ فَالْتَحَقَ إقْرَارُهَا بِالْعَدَمِ، وَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَجَاءَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ فَلَمْ يَكُنْ وَلَدَ زِنًا لَكِنْ لَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَلَزِمَ تَصْدِيقُهَا فِي إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا عَلَى الْأَصْلِ فَلَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ مِنْ الزَّوْجِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مَذْهَبُنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا أَقَرَّتْ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ إقْرَارَهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الصَّبِيِّ وَهُوَ تَضْيِيعُ نَسَبِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ حَقًّا لِلصَّبِيِّ فَلَا يُقْبَلُ، وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْعَ ائْتَمَنَهَا فِي الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَيْثُ نَهَاهَا عَنْ كِتْمَانِ مَا فِي رَحِمِهَا، وَالنَّهْيُ عَنْ الْكِتْمَانِ أَمْرٌ بِالْإِظْهَارِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَبُولِ، وَقَوْلُهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الصَّبِيِّ فِي النَّسَبِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ إبْطَالَ الْحَقِّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ يَكُونُ، وَالنَّسَبُ هاهنا غَيْرُ ثَابِتٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَزِمَ الزَّوْجَ أَيْضًا وَصَارَ مُرَاجِعًا لَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ مِنْ وَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ وَهُوَ وَطْءُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ فَيَمْلِكُ وَطْأَهَا مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَمَتَى حُمِلَ عَلَيْهِ صَارَ مُرَاجِعًا بِالْوَطْءِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُمْتَدَّةَ الطُّهْرِ فَوَطِئَهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ فَعَلِقَتْ فَصَارَ مُرَاجِعًا.
فَإِنْ قِيلَ هَلَّا حُمِلَ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لِيَصِيرَ مُرَاجِعًا لَهَا فَالْجَوَابُ أَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَيْهِ لَلَزِمَ إثْبَاتُ الرَّجْعَةِ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ مِنْ وَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ رَجْعَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ قَبْلَهُ فَلَا يَكُونُ رَجْعَةً، فَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ مَعَ الشَّكِّ، أَمَّا هاهنا فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ مِنْ وَطْءٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْوَطْءِ فَافْتَرَقَا، وَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَقَرَّتْ لَزِمَهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ لَا يَلْزَمُهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ فَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا فَإِنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا وَلَدَتْ عُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيِسَةٍ بَلْ هِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِهِ مُفَسَّرًا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آيِسَةً تَبَيَّنَ أَنَّ عِدَّتَهَا لَمْ تَكُنْ بِالْأَشْهُرِ فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْأَشْهُرِ فَالْتَحَقَ إقْرَارُهَا بِالْعَدَمِ فَجُعِلَ كَأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِهِ مُطْلَقًا فِي مُدَّةٍ تَصْلُحُ لِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَقَرَّتْ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْيَأْسُ بَعُدَ حَمْلُ إقْرَارِهَا عَلَى الْأَقْرَاءِ بِالِانْقِضَاءِ بِالْأَشْهُرِ لِبُطْلَانِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَقْرَاءِ بِالِانْقِضَاءِ بِالْأَقْرَاءِ حَمْلًا لِكَلَامِ الْعَاقِلَةِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الصِّحَّةِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ.
وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا إنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَإِمَّا إنْ كَانَتْ لَمْ تُقِرَّ وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا حَامِلٌ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ، وَإِمَّا إنْ سَكَتَتْ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَإِمَّا إنْ كَانَ رَجْعِيًّا.
فَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عِنْدَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَقَرَّتْ ثَبَتَ النَّسَبُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّغِيرَةِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مَقْبُولٌ فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَفُ بِعِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّتْ بِالْبُلُوغِ يُقْبَلُ إقْرَارُهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَقَدْ ظَهَرَ كَذِبُهَا فِي إقْرَارِهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَأُلْحِقَ إقْرَارُهَا بِالْعَدَمِ.
وَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهَا فِي إقْرَارِهَا لِجَوَازِ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَهَذَا الْوَلَدُ مِنْهُ، وَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ وَالرَّجْعِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ بِالْحَمْلِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا يَثْبُتُ إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَقَرَّتْ بِالْحَمْلِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِبُلُوغِهَا فَصَارَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْبَالِغَةِ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِالْعُلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي الْعِدَّةِ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَالْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ إذَا عَلِقَتْ فِي الْعِدَّةِ يَصِيرُ الزَّوْجُ مُرَاجِعًا لَهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثَةِ الْأَشْهُرِ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: سُكُوتُهَا كَإِقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا إنْ جَاءَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَثْبُتُ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: سُكُوتُهَا كَإِقْرَارِهَا بِالْحَمْلِ أَوْ دَعْوَى الْحَمْلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا يَثْبُتُ إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُرَاهِقَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَبِلَتْ وَلَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ فَمَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَا يُحْكَمُ بِالِانْقِضَاءِ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَلَهُمَا أَنَّ عِدَّةَ الصَّغِيرَةِ ذَاتُ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ إذْ الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الْبُلُوغِ فَكَانَ انْقِضَاؤُهَا بِانْقِضَاءِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَإِقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَلَوْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا كَانَ الْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا.
كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِمُضِيِّ الشُّهُورِ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا ذَاتُ جِهَتَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِالشُّهُورِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَمَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّة لَا يُحْكَمُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ.
وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ وَلَمْ تَكُنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ الزَّوْجِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: إذَا لَمْ تَدَّعِ الْحَمْلَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ ثُمَّ جَاءَتْ بِهِ لِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا هِيَ الْأَشْهُرُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَمْلِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْحَمْلِ فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَصَارَ كَأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُنَاكَ لَوْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ يَثْبُتُ النَّسَبُ.
وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَثْبُتُ كَذَا هَذَا، وَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الصَّغِيرَةِ مَا وَصَفْنَا كَذَا فِي الْكَبِيرَةِ.
وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ذَاتُ جِهَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ فَمَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَا يُحْكَمُ بِالِانْقِضَاءِ كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ الطَّلَاقِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ لِمَا مَرَّ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا ذَاتُ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْحَبَلِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُحْتَمَلُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَحَلًّا بِالْبُلُوغِ وَفِيهِ شَكٌّ فَيَبْقَى حُكْمُ الْأَصْلِ، فَأَمَّا عِدَّةُ الْكَبِيرَةِ فَذَاتُ جِهَتَيْنِ لِمَا قَرَّرْنَا مِنْ الِاحْتِمَالِ وَالتَّرَدُّدِ فَلَا يُحْكَمُ بِالِانْقِضَاءِ بِالْأَشْهُرِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَقَرَّتْ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ.
وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ فَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَحُكْمُهَا فِي الْفَوَاتِ مَا هُوَ حُكْمُهَا فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفِرَاقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ إذَا جَاءَتْ الْمُعْتَدَّةُ بِوَلَدٍ قَبْلَ التَّزْوِيجِ بِزَوْجٍ آخَرَ.
فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَإِمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَإِمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَإِمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّانِي إذْ الْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ إلَى سَنَتَيْنِ وَفِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ حُمِلَ أَمْرُهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ.
وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فَهُوَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَوَّلِ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ وَهِيَ مُعْتَدَّةُ الْغَيْرِ فَصَحَّ نِكَاحُ الثَّانِي فَكَانَ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشٍ صَحِيحٍ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي لَمْ يَكُنْ لِلْأَوَّلِ وَلَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهَلْ يَجُوزُ نِكَاحُ الثَّانِي؟ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزٌ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا مِنْ الثَّانِي كَانَ هَذَا الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الزِّنَا.
وَذَلِكَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ جَازَ نِكَاحُهَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَضَعَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ مَا لَمْ تَضَعْ حَمْلَهَا هَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ وَقْتَ التَّزَوُّجِ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ وَقَعَ النِّكَاحُ الثَّانِي فَاسِدًا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ الْأَوَّلِ إنْ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ مِنْهُ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِي فَاسِدٌ وَمَهْمَا أَمْكَنَ إحَالَةُ النَّسَبِ إلَى الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُهُ مِنْهُ وَأَمْكَنَ إثْبَاتُهُ مِنْ الثَّانِي فَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الثَّانِي بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ النَّسَبِ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَإِثْبَاتُهُ مِنْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الزِّنَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَإِذَا نُعِيَ إلَى الْمَرْأَةِ زَوْجُهَا فَاعْتَدَّتْ وَتَزَوَّجَتْ وَوَلَدَتْ ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَنْكُوحَتَهُ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى النِّكَاحِ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ فَبَقِيَتْ عَلَى النِّكَاحِ السَّابِقِ وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الثَّانِي.
وَأَمَّا الْوَلَدُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ لِلْأَوَّلِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ وَطِئَهَا الثَّانِي فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ لِلثَّانِي، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِسَنَتَيْنِ مِنْ حِينِ وَطِئَهَا الثَّانِي فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَهُوَ لِلثَّانِي وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِسَنَتَيْنِ مِنْ حِينِ وَطِئَهَا الثَّانِي أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ إلَى سَنَتَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ وَلَدَتْهُ إلَى سَنَتَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْفِرَاشِ الْفَاسِدِ ضَرُورَةً.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ وَطِئَهَا الثَّانِي تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْفِرَاشِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَإِذَا وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ الثَّانِي.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفِرَاشَ الصَّحِيحَ لِلْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَمُطْلَقُ الْفِرَاشِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ وَلَدِ الْمُعْتَدَّةِ أَيْ يَظْهَرُ بِهِ.
فَجُمْلَةٌ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فَقَدْ ثَبَتَ وِلَادَتُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْكُوحَةً أَوْ مُعْتَدَّةً وَإِنْ كَذَّبَهَا تَثْبُتُ وِلَادَتُهَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ثِقَةٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ نَفَاهُ، يُلَاعِنُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا نَوْعُ شَهَادَةٍ فلابد مِنْ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِيهِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الشَّهَادَاتِ فَيُقَامُ كُلُّ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ مَقَامَ رَجُلٍ فَإِذَا كُنَّ أَرْبَعًا يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلَيْنِ فَيَكْمُلُ الْعَدَدُ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ فِي الْوِلَادَةِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهَا فِي الْوِلَادَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ مِنْهُنَّ عَلَى هَذَا أُصُولُ الشَّرْعِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَعَنْ الْوَكَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدِّيَانَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ.
وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ أَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ وَهَاهُنَا يُقْبَلُ فَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِنَّ.
وَلَوْ نَفَى الْوَلَدَ يُلَاعِنُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِالنِّكَاحِ لَا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ بِشَهَادَتِهَا الْوِلَادَةُ وَتَعَيَّنَ أَيْ الَّذِي وَلَدَتْهُ هَذَا لِجَوَازِ أَنَّهَا وَلَدَتْ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَإِذَا نَفَى الْوَلَدَ فَقَدْ صَارَ قَاذِفًا لِأُمِّهِ بِالزِّنَا، وَقَذْفُ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا يُوجِبُ اللِّعَانَ.
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ وَلَدٌ فَهُوَ مِنِّي فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِفِرَاشِ الْمِلْكِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ.
وَقَوْلُهُ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ وَلَدٌ فَهُوَ مِنِّي دَعْوَى النَّسَبِ وَالْحَاجَةِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْوِلَادَةِ وَتَعَيَّنَ الْوَلَدُ، وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ مِنْ ضَرُورَاتِ ثُبُوتِ النَّسَبِ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: وَلَدْتُ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ فَشَهِدَتْ قَابِلَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ وَلَا كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقَعُ مَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى الْوِلَادَةِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَقَعُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ إذَا كَانَتْ عَدْلًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوِلَادَةَ قَدْ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا ثَبَتَ النَّسَبُ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْوِلَادَةِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةُ فَرْدٍ ثُمَّ هُوَ أُنْثَى فَيَظْهَرُ فِيمَا فِيهِ الضَّرُورَةُ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ تِلْكَ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ فِي الْوِلَادَةِ، فَيَظْهَرُ فِيهَا، فَتَثْبُتُ الْوِلَادَةُ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوِلَادَةِ لِتَصَوُّرِ الْوِلَادَةِ بِدُونِ الطَّلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى إثْبَاتِ الْوِلَادَةِ فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ.
وَالنَّسَبُ مَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ بِالشَّهَادَةِ الْوِلَادَةُ، وَتَعَيُّنُ الْوَلَدِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوِلَادَةِ وَلَا مِنْ ضَرُورَاتِ ثُبُوتِ النَّسَبِ أَيْضًا، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ الْوِلَادَةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ الْقَابِلَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ إلَّا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُعْطِي شَيْئًا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي عَارَضَهَا إنْكَارُ الْمُنْكِرِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ الْحَدِيثَ إلَّا فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا فِي الْحَيْضِ.
وَالْوِلَادَةُ أَمْرٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيهِ.
وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِقَوْلِهَا بِدُونِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ.
كَذَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي وَهُوَ يُنْكِرُ.
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ حَتَّى يُقِيمَ لِلْمُدَّعِي حُجَّتَهُ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الْحَبَلُ وَهُوَ كَوْنُ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ أَوْ يَكُونُ الْحَبَلُ ظَاهِرًا وَأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْوِلَادَةِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يُوضَعُ لَا مَحَالَةَ فَكَانَتْ الْوِلَادَةُ أَمْرًا كَائِنًا لَا مَحَالَةَ فَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُهَا كَمَا فِي دَمِ الْحَيْضِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: حِضْتُ، يَقَعُ الطَّلَاقُ.
كَذَا هاهنا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي حَقِّ إثْبَاتِ النَّسَبِ بِدُونِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ؛ لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ فَلَا تُصَدَّقُ عَلَى التَّعْيِينِ فِي حَقِّ إثْبَاتِ النَّسَبِ وَلَا تُهْمَةَ فِي التَّعْيِينِ فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَتُصَدَّقُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَنَظِيرُهُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَامْرَأَتِي الْأُخْرَى فُلَانَةُ مَعَكِ، فَقَالَتْ حِضْتُ، وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ تَطْلُقُ هِيَ وَلَا تَطْلُقُ ضَرَّتُهَا وَيَثْبُتُ حَيْضُهَا فِي حَقِّهَا وَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ ضَرَّتِهَا إلَّا بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً فِي حَقِّ ضَرَّتِهَا وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا.
كَذَا هَاهُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ مِنْ وَفَاةٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ إلَى سَنَتَيْنِ فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ أَوْ وَرِثَتْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَادَّعَتْ هِيَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ وَلَا كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَالْوَفَاةِ بَاقٍ فِي حَقِّ الْفِرَاشِ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْوِلَادَةِ وَتَعْيِينِ الْوَلَدِ وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفِرَاشَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْوِلَادَةِ وَتَصِيرُ أَجْنَبِيَّةً، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِثُبُوتِ الْوِلَادَةِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ قَضَاءً بِثُبُوتِ النَّسَبِ لِوَلَدِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي الْوِلَادَةِ.
وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ لَهَا قَابِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِدُونِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَالْكَلَامُ فِي الطَّرَفَيْنِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَسَوَّى بَيْنَ الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَجْنَبِيَّةٌ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا فَلَا تُصَدَّقُ عَلَى الْوِلَادَةِ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ مُقِرًّا بِالْحَبَلِ وَلَا كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا.
وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَأَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوِلَادَةِ سَنَتَيْنِ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى الْوِلَادَةِ أَحَدٌ لَا الْقَابِلَةُ وَلَا غَيْرُهَا وَلَكِنْ صَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ فِي أَنَّهَا وَلَدَتْهُ، ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِقَوْلِهِمْ.
وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ إنْ كَانَ وَرَثَتُهُ ابْنَيْنِ أَوْ ابْنًا وَبِنْتَيْنِ، وَاخْتِلَافُ الْعِبَارَتَيْنِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِهِ بِتَصْدِيقِهِمْ مِنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْإِقْرَارِ، فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ حَيْثُ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ ابْنَيْنِ أَوْ ابْنًا وَبِنْتَيْنِ.
وَمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَامِعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ، وَالشَّهَادَةُ لَا تُسَمَّى تَصْدِيقًا فِي الْعُرْفِ وَكَذَا الْحَاجَةُ إلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ، وَلَا مُنَازِعَ هاهنا وَمِنْ هَذَا إنْشَاءُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ مَشَايِخِنَا فَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ التَّصْدِيقَ مِنْهُ شَهَادَةً وَبَعْضُهُمْ إقْرَارًا، فَمِنْ اعْتَبَرَهُ شَهَادَةً قَالَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْحُكْمِ، وَإِذَا صَدَّقَهَا الْبَعْضُ وَجَحَدَ الْبَعْضُ؛ فَإِنْ صَدَّقَهَا رَجُلَانِ مِنْهُمْ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يُشَارِكُ الْوَلَدُ الْمُقِرِّينَ مِنْهُمْ وَالْمُنْكِرِينَ جَمِيعًا مِنْهُمْ فِي الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ فَكَانَتْ حُجَّةً عَلَى الْكُلِّ فَيَظْهَرُ نَسَبُهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَمَنْ اعْتَبَرَهُ إقْرَارًا قَالَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ إذَا صَدَّقَهَا جَمِيعُ الْوَرَثَةِ سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا وَلَا يُرَاعَى لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْحُكْمِ فَإِذَا صَدَّقَهَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَجَحَدَ الْبَاقُونَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ فِي حَقِّهِمْ وَيُشَارِكُهُمْ فِي نَصِيبِهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ وَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمْ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ.
وَمِنْ هَذَا أَيْضًا إنْشَاءُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا فَصَدَّقَهَا فِي الْوِلَادَةِ فَقَالَ الْكَرْخِيُّ: إنَّ نَسَبَهُ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ الِاخْتِلَافَ فَقَالَ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَثْبُتُ كَأَنَّهُمَا اعْتَبَرَا قَوْلَهُ شَهَادَةً، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَا تُقْبَلُ وَاعْتَبَرَهُ أَبُو يُوسُفَ إقْرَارًا وَإِقْرَارُ الْفَرْدِ مَقْبُولٌ، هَذَا إذَا صَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا لَمْ يَكُنْ أَقَرَّ بِالْحَمْلِ وَلَا كَانَ الْحَمْلُ ظَاهِرًا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى الْوِلَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا وَلَدْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ.
(رَجُلٌ) قَالَ لِغُلَامٍ هَذَا ابْنِي ثُمَّ مَاتَ فَجَاءَتْ أُمُّ الْغُلَامِ فَقَالَتْ أَنَا امْرَأَتُهُ، لَا شَكَّ أَنَّ الْغُلَامَ يَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَهَلْ تَرِثُهُ هَذِهِ أَمْ لَا؟ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهَا تَرِثُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا الْمِيرَاثُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أُمُّ الْغُلَامِ حُرَّةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَمَةً، وَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَهَا، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَطِئَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ وَيُحْتَمَلُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ بِشُبْهَةِ نِكَاحٍ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي الْإِرْثِ فَلَا تَرِثُ بِالشَّكِّ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْإِرْثِ فِي حَقِّهَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ بِنَسَبِ الْوَلَدِ وَهُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي امْرَأَةٍ مَعْرُوفَةٍ بِالْحُرِّيَّةِ وَبِأُمُومَةِ هَذَا الْوَلَدِ فَإِذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ الْوَلَدِ أَنَّهُ مِنْهُ وَالنَّسَبُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْفِرَاشِ.
وَالْأَصْلُ فِي الْفِرَاشِ هُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ فَكَانَ دَعْوَى نَسَبِ الْوَلَدِ إقْرَارًا مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَإِذَا صَدَّقَهَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ ظَاهِرًا فَتَرِثُهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ وَأَنْكَرَتْ الْوَرَثَةُ كَوْنَهَا حُرَّةً أَوْ أُمًّا لَهُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَبْقَى مُحْتَمِلًا فَلَا تَرِثُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِحَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ عَنْ الطَّلَاقِ مِنْ الْأَحْكَامِ.
مِنْهَا الْإِرْثُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ وَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ حَالَ الصِّحَّةِ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ حَالَ الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَمَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَرِثَهُ الْآخَرُ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ فِي حَالِ الْمَرَضِ أَوْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ مِنْهُ لَا يُزِيلُ النِّكَاحَ فَكَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَائِمَةً مِنْ وَجْهٍ وَالنِّكَاحُ الْقَائِمُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ رِضَاهَا أَوْ بِرِضَاهَا فَإِنَّ مَا رَضِيَتْ بِهِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ حَتَّى يَكُونَ رِضًا بِبُطْلَانِ حَقِّهَا فِي الْمِيرَاثِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً مُسْلِمَةً وَقْتَ الطَّلَاقِ أَوْ مَمْلُوكَةً أَوْ كِتَابِيَّةً ثُمَّ أُعْتِقَتْ أَوْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا دَامَتْ الْعِدَّةُ قَائِمَةً وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ.
وَإِنْ كَانَتْ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرِثْهُ صَاحِبُهُ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بِرِضَاهَا أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ بِرِضَاهَا لَا تَرِثُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ رِضَاهَا فَإِنَّهَا تَرِثُ مِنْ زَوْجِهَا عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَرِثُ.
وَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَشَرْطِ الِاسْتِحْقَاقِ وَوَقْتِهِ أَمَّا السَّبَبُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فِي حَقِّهَا النِّكَاحُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدَارَ الْإِرْثَ فِيمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ فِي الشَّرْعِ ثَلَاثَةٌ لَا رَابِعَ لَهَا: الْقَرَابَةُ وَالْوَلَاءُ وَالزَّوْجِيَّةُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُصَيِّرُ النِّكَاحَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ فَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا وَقْتَ الْمَوْتِ ثَبَتَ الْإِرْثُ وَإِلَّا فَلَا.
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَقْتُ مَرَضِ الْمَوْتِ، وَالنِّكَاحُ كَانَ قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَوَّلِ مَرَضِ الْمَوْتِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إبْقَائِهِ مِنْ وَجْهٍ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ لِيَصِيرَ سَبَبًا.
وَتَفْسِيرُ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُمْ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِلْوَارِثِ مِنْ وَقْتِ الْمَرَضِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ، وَمِنْ وَجْهٍ وَقْتُ الْمَوْتِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ طَرِيقُ الِاسْتِنَادِ، وَهُمَا طَرِيقَتَا مَشَايِخِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ طَرِيقُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ إنَّ النِّكَاحَ الْقَائِمَ وَقْتَ مَرَضِ الْمَوْتِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ هُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْإِرْثِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ أَصْلًا لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا مِنْ وَجْهٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِرْثَ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ قَبْلَ الْمَوْتِ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ بِدَلِيلِ نَفَاذِ تَصَرُّفَاتِهِ فلابد مِنْ وُجُودِ السَّبَبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا سَبَبَ هاهنا إلَّا النِّكَاحُ وَقَدْ زَالَ بِالْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثِ فَلَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا يَرِثُ الزَّوْجُ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ لَوَرِثَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ لَا تَقُومُ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَدَلَّ أَنَّهَا زَائِلَةٌ.
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْمَعْقُولُ: أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ وَلَا يَخْتَلِفُونَ مَنْ فَرَّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى رُدَّ إلَيْهِ أَيْ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ فَإِنَّهَا تَرِثُهُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ.
وَهَذَا مِنْهُ حِكَايَةٌ عَنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ.
وَكَذَا رُوِيَ تَوْرِيثُ امْرَأَةِ الْفَارِّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، مِثْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ إلَى شُرَيْحٍ بِخَمْسِ خِصَالٍ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهُنَّ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ ثَلَاثًا وَرِثَتْ مِنْهُ مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ أُمَّ الْبَنِينَ بِنْتَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ كَانَتْ تَحْتَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا اُحْتُضِرَ طَلَّقَهَا، وَقَدْ كَانَ أَرْسَلَ إلَيْهَا بُشْرَى فَلَمَّا قُتِلَ أَتَتْ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَكَهَا حَتَّى إذَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ طَلَّقَهَا، فَوَرَّثَهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تُمَاضِرَ الْكَلْبِيَّةَ فِي مَرَضِهِ آخِرَ تَطْلِيقَاتِهَا الثَّلَاثِ وَكَانَتْ تَحْتَهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ أُخْتُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ مَا أَتَّهِمُهُ وَلَكِنْ لَا أُرِيدَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: إنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَهُوَ مَرِيضٌ تَرِثُهُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَرِثُهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَإِنْ قِيلَ إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ مُخَالِفٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قِصَّةِ تُمَاضِرَ وَرَّثَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُوَرِّثْهَا فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَوْ كُنْت أَنَا لَمَا وَرَّثْتُهَا أَيْ عِنْدِي أَنَّهَا لَا تَرِثُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَيْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالصَّوَابِ مَا لَوْ كُنْت مَكَانَهُ لَكَانَ لَا يَظْهَرُ لِي فَكَانَ تَصْوِيبًا لَهُ فِي اجْتِهَادِهِ وَأَنَّ الْحَقَّ فِي اجْتِهَادِهِ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ مَعَ الِاحْتِمَالِ بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فِيهِ تَحْقِيقُ الْمُوَافَقَةِ أَوْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ سَأَلَتْ الطَّلَاقَ فَرَأَى عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوْرِيثَهَا مَعَ سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ فَيَرْجِعُ قَوْلُهُ: لَوْ كُنْت أَنَا لَمَا وَرَّثْتُهَا إلَى سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ فَلَمَّا وَرَّثَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ مَسْأَلَتِهَا الطَّلَاقَ فَعِنْدَ عَدَمِ السُّؤَالِ أَوْلَى عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي وِلَايَتِهِ وَقَدْ كَانَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ قَبْلَهُ مِنْهُمْ عَلَى التَّوْرِيثِ فَخِلَافُهُ بَعْدَ وُقُوعِ الِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وُجِدَ مَعَ شَرَائِطِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ كَمَا إذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَلَا كَلَامَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرَائِطِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ فَنَقُولُ: وَقْتُ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ النَّصُّ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولُ: أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ» أَيْ تَصَدَّقَ بِاسْتِيفَاءِ مِلْكِكُمْ عَلَيْكُمْ فِي ثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ أَخْبَرَ عَنْ مِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنَّهُ اسْتَبْقَى لَهُمْ الْمِلْكَ فِي ثُلُثِ أَمْوَالِهِمْ لِيَكُونَ وَسِيلَةً إلَى الزِّيَادَةِ فِي أَعْمَالِهِمْ بِالصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمِنَّةِ، وَآخِرُ أَعْمَارِهِمْ مَرَضُ الْمَوْتِ فَدَلَّ عَلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَنْ الثُّلُثَيْنِ إذْ لَوْ لَمْ يَزَلْ لَمْ يَكُنْ لِيَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِالتَّصَدُّقِ بِالثُّلُثِ بَلْ بِالثُّلُثَيْنِ إذْ الْحَكِيمُ فِي مَوْضِعِ بَيَانِ الْمِنَّةِ لَا يَتْرُكُ أَعْلَى الْمِنَّتَيْنِ وَيَذْكُرُ أَدْنَاهُمَا، وَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الثُّلُثَيْنِ يَئُولُ إلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ فَيَرْضَى بِالزَّوَالِ إلَيْهِمْ لِرُجُوعِ مَعْنَى الْمِلْكِ إلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ بِخِلَافِ الْأَحَادِيثِ.
وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إنِّي كُنْت نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّكِ لَمْ تَكُونِي حُزْتِيهِ وَلَا قَبَضْتِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ وَلَمْ تَدَّعِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَالَ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يَصِيرُ مِلْكَ الْوَارِثِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ.
وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ تَبَرُّعُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ، وَفِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لَا يَنْفُذُ بِشَيْءٍ أَصْلًا وَرَأْسًا حَتَّى كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَوْهُوبَ مِنْ يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ إذَا لَمْ يَدْفَعْ الْقِيمَةَ وَلَوْ نَفَذَ لَمَا كَانَ لَهُمْ الْأَخْذُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَدَلَّ عَدَمُ النَّفَاذِ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ وَإِذَا زَالَ يَزُولُ إلَى الْوَرَثَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمَالَ الْفَاضِلَ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ يُصْرَفُ إلَى الْوَرَثَةِ بِلَا خِلَافٍ وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا فَضَلَ وَوَقَعَ مِنْ وَقْتِ الْمَرَضِ الْفَرَاغُ عَنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَهَذِهِ الدَّلَائِلُ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِلْوَارِثِ فِي الْمَالِ الْفَاضِلِ عَنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ لَا مَحَالَةَ.
وَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْمِلْكِ رَأْسًا فَلِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ: أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَنْ يُنْقَضَ تَبَرُّعُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَوْلَا تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَارِثِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَكَانَ التَّبَرُّعُ تَصَرُّفًا مِنْ أَهْلٍ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ لَا حَقَّ لِلْغَيْرِ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْقَضَ فَدَلَّ حَقُّ النَّقْضِ عَلَى تَعَلُّقِ الْحَقِّ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ حَالَ مَرَضِ الْمَوْتِ صَارَ وَسِيلَةً إلَى الْإِرْثِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَوَسِيلَةُ حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ وَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ وَالثَّلَاثُ إبْطَالٌ لِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ فَيَكُونُ إبْطَالًا لِحَقِّهَا وَذَلِكَ إضْرَارٌ بِهَا فَيُرَدُّ عَلَيْهِ، وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ إبْطَالِ الْإِرْثِ فِي الْحَالِ عَمَلًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» فَلَمْ يَعْمَلْ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ فِي إبْطَالِ سَبَبِيَّةِ النِّكَاحِ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَيْهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا وَتَأَخُّرِ عَمَلِهِ فِيهِ إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبَانَهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ بِأَنْ اخْتَارَ نَفْسَهُ، وَتَقْبِيلِ ابْنَتِهَا أَوْ أُمِّهَا وَرِدَّتِهِ أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ لَا تَرِثُ هِيَ مِنْهُ وَلَا هُوَ مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ كَمَا لَوْ أَبَانَهَا بِالطَّلَاقِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ إلَّا فِي الرِّدَّةِ بِأَنْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ فَمَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مِنْ الزَّوْجِ فِي مَعْنَى مَرَضِ الْمَوْتِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ فِي حَالِ الْمَرَضِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَا يَرِثُ هُوَ مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَوْ جَامَعَهَا ابْنُهُ مُكْرَهَةً أَوْ مُطَاوِعَةً لَا تَرِثُ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَلِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِبْطَالِ حَقِّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ إبْطَالُ حَقِّهَا الْمُتَعَلِّقِ بِالْإِرْثِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْبَيُونَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ كَمَا إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ بِشَهْوَةٍ طَائِعَةً أَوْ مُكْرَهَةً أَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي خِيَارِ الْإِدْرَاكِ أَوْ الْعَتَاقِ أَوْ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَإِنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيُونَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَكَذَا إذَا ارْتَدَّتْ بِخِلَافِ رِدَّةِ الزَّوْجِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ رِدَّةَ الزَّوْجِ فِي مَعْنَى مَرَضِ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمَوْتِ إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ الصِّحَّةِ بِاحْتِمَالِ الْإِسْلَامِ قَائِمٌ فَإِذَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا فَقَدْ زَالَ الِاحْتِمَالُ، وَكَذَا إذَا أُلْحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ فَتَقَرَّرَ الْمَرَضُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ ثَابِتًا فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ وَأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ وُجِدَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَتَرِثُ مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَرِيضًا حَقِيقَةً فَأَمَّا رِدَّتُهَا فَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى مَرَضِ مَوْتِهَا لِيُقَالَ يَنْبَغِي أَنْ يَرِثَ الزَّوْجُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ لَا تَرِثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا فَلَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ الْقَائِمُ حَالَ رِدَّتِهَا سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فِي حَقِّهِ لِانْعِدَامِهِ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ مَرَضِ الزَّوْجِ لَا تَرِثُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْإِرْثِ وَهُوَ عَدَمُ رِضَاهَا بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ وَلِحُصُولِ الْفُرْقَةِ بِفِعْلِ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَيَرِثُ الزَّوْجُ مِنْهَا إنْ كَانَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ مِنْهَا فِي مَرَضِهَا وَمَاتَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لِوُجُوبِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ النِّكَاحُ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ مَرَضُ مَوْتِهَا وَلِوُجُودِ سَبَبِ إبْطَالِ حَقِّهِ مِنْهَا فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَالْقِيَاسُ فِيمَا إذَا ارْتَدَّتْ فِي مَرَضِهَا ثُمَّ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ أَنْ لَا يَرِثَهَا زَوْجُهَا وَإِنَّمَا يَرِثُهَا اسْتِحْسَانًا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِفِعْلِهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا الرِّدَّةَ وَالْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ بِهَا وَإِنَّمَا تَقَعُ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ وَلَا صَنِيعَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا فِي مَرَضِهَا إبْطَالُ حَقِّ الزَّوْجِ لِيَرُدَّ عَلَيْهَا فَلَا يَرِثُ مِنْهَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرْنَا وَلَسْنَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِفِعْلِهَا فَإِنَّ الرِّدَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ مِنْهَا فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْإِرْثِ وَهُوَ مَرَضُ مَوْتِهَا فَيَرِثُ مِنْهَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا شَرَائِطُ الِاسْتِحْقَاقِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ كُلِّهَا، وَنَوْعٌ يَخُصُّ النِّكَاحَ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا فَمِنْهَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَارِثُ مَمْلُوكًا وَلَا مُرْتَدًّا وَلَا قَاتِلًا، فَلَا يَرِثُ الْمَمْلُوكُ وَلَا الْمُرْتَدُّ مِنْ أَحَدٍ وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ مِنْ الْمَقْتُولِ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْأَهْلِيَّةِ مِنْهَا وَقْتَ الطَّلَاقِ وَدَوَامُهَا إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً أَوْ كِتَابِيَّةً وَقْتَ الطَّلَاقِ لَا تَرِثُ وَإِنْ أُعْتِقَتْ أَوْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَا يَنْعَقِدُ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ بِدُونِ شَرْطِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَقْتُ صَيْرُورَةِ النِّكَاحِ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا فَلَا يُعْتَبَرُ حُدُوثُ الْأَهْلِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً وَقْتَ الطَّلَاقِ ثُمَّ ارْتَدَّتْ فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا.
وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ وَقْتَ الطَّلَاقِ أَمَّا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ فلابد مِنْ قِيَامِ السَّبَبِ مِنْ وَجْهٍ عِنْدَهُ لِيَثْبُتَ ثُمَّ يَسْتَنِدَ وَقَدْ بَطَلَ بِالرِّدَّةِ رَأْسًا فَتَعَيَّنَ الِاسْتِنَادُ، وَكَذَا مَنْ يَقُولُ بِثُبُوتِ الْحِلِّ فِي الْمَرَضِ دُونَ الْمِلْكِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْإِرْثِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَمْ يَبْقَ لِبُطْلَانِهِ بِالرِّدَّةِ.
وَأَمَّا عَلَى طَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ فَيُشْكِلُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ ثَابِتًا لِلْوَارِثِ وَقْتَ الْمَرَضِ، وَالنِّكَاحُ كَانَ قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْأَهْلِيَّةُ كَانَتْ مَوْجُودَةً، وَبَقَاءُ السَّبَبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ، وَكَذَا الْأَهْلِيَّةُ شَرْطُ الثُّبُوتِ لَا شَرْطُ الْبَقَاءِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ بِشَهْوَةٍ فِي عِدَّتِهَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا بِالتَّقْبِيلِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِرْثِ إذْ لَيْسَ تَحْتَ التَّقْبِيلِ إلَّا التَّحْرِيمُ، وَالتَّحْرِيمُ لَا يُبْطِلُ أَهْلِيَّةَ الْإِرْثِ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ فَإِنَّهَا مُبْطِلَةٌ لِلْأَهْلِيَّةِ وَمِنْهَا شَرْطُ الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ مَالًا فَاضِلًا فَارِغًا عَنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً فَلَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ فِي الْمَالِ الْمَشْغُولِ بِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمِنْهَا اتِّحَادُ الدَّيْنِ، وَمِنْهَا اتِّحَادُ الدَّارِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ النِّكَاحَ فَشَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا قِيَامُ الْعِدَّةِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَا تَرِثُ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَرِثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ جَرَيَانَ الْإِرْثِ بَعْدَ الْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَهُمْ شَرَطُوا قِيَامَ الْعِدَّةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْهُمْ فَصَارَ شَرْطًا بِالْإِجْمَاعِ غَيْرَ مَعْقُولٍ فَيَتْبَعُ مَعْقِدَ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً كَانَ بَعْضُ أَحْكَامِ النِّكَاحِ قَائِمًا مِنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْفِرَاشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ إبْقَاؤُهُ فِي حَقِّ حُكْمِ الْإِرْثِ فَالتَّوْرِيثُ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ.
وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ عَلَائِقِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِالتَّوْرِيثِ نَصْبَ شَرْعٍ بِالرَّأْيِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَقَالُوا فِيمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِهِ وَدَامَ بِهِ الْمَرَضُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَمَاتَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَهَا الْمِيرَاثُ بِنَاءً عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْأَقْرَاءِ وَبِوَضْعِ الْحَمْلِ عِنْدَهُمَا بِالْأَقْرَاءِ، وَعِنْدَهُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَمْلَ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَلَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَلَمْ تَكُنْ مَقْضِيَّةَ الْعِدَّةِ عِنْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَتَرِثُ وَهُمَا يَقُولَانِ لَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ حَصَلَ بِوَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ وَطِئَهَا أَوْ غَيْرُهُ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ إيَّاهَا حَرَامٌ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْتَكِبُ الْحَرَامَ.
وَلَا وَجْه لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ غَيْرَ الزَّوْجِ إمَّا أَنْ وَطِئَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ وَالْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ حَرَامٌ أَيْضًا فَتَعَيَّنَ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَهُوَ أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ قَبْلَ التَّزَوُّجِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَكَانَتْ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَلَا تَرِثُ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ أَنَّهَا تَرُدُّ نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا تَرُدُّ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَالثَّانِي عَدَمُ الرِّضَا مِنْهَا بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ وَشَرْطِهَا، فَإِنْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ لَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِبُطْلَانِ حَقِّهَا، وَالتَّوْرِيثُ ثَبَتَ نَظَرًا لَهَا لِصِيَانَةِ حَقِّهَا فَإِذَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا لَمْ تَبْقَ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّظَرِ وَعَلَى هَذَا تَخْرِيجِ مَا إذَا قَالَ لَهَا فِي مَرَضِهِ أَمْرُكِ بِيَدِكِ أَوْ اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَفَعَلَتْ أَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا فَفَعَلَ أَوْ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ أَنَّهَا لَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِسَبَبِ الْبُطْلَانِ أَوْ بِشَرْطِهِ أَمَّا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا بَاشَرَتْ سَبَبَ الْبُطْلَانِ بِنَفْسِهَا.
وَكَذَا إذَا أَمَرَهَا بِالطَّلَاقِ فَطَلَّقَتْ وَكَذَا إذَا سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ فَطَلَّقَهَا؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ مِنْ الزَّوْجِ وَفِي الْخُلْعِ بَاشَرَتْ الشَّرْطَ بِنَفْسِهَا فَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلُ الرِّضَا وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي لِلرَّجْعَةِ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَرِثَتْ؛ لِأَنَّ مَا رَضِيَتْ بِهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِبُطْلَانِ الْإِرْثِ وَمَا هُوَ سَبَبُ الْبُطْلَانِ وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ الزَّوْجُ مَا رَضِيَتْ بِهِ فَتَرِثُ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ فِي مَرَضِهِ أَوْ صِحَّتِهِ بِشَرْطٍ وَكَانَ الشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَوُجُودُ الشَّرْطِ جَمِيعًا فِي الصِّحَّةِ، وَإِمَّا إنْ كَانَا جَمِيعًا فِي الْمَرَضِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الصِّحَّةِ وَالْآخَرُ فِي الْمَرَضِ وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ عَلَّقَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَوُجُودُ الشَّرْطِ جَمِيعًا فِي الصِّحَّةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَا تَرِثُ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِهِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ وَقْتُ مَرَضِ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا فِي الْمَرَضِ فَإِنَّهَا تَرِثُ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي وَقْتِهِ وَانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهَا بِبُطْلَانِ حَقِّهَا إلَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِفِعْلِهَا الَّذِي لَهَا مِنْهُ بُدٌّ فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهَا بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهَا فَعَلَتْ مِنْ اخْتِيَارٍ وَلَوْ أَجَّلَ الْعِنِّينُ وَهُوَ مَرِيضٌ وَمَضَى الْأَجَلُ وَهُوَ مَرِيضٌ وَخُيِّرَتْ الْمَرْأَةُ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِاخْتِيَارِهَا؛ لِأَنَّهَا تَقْدِرُ أَنْ تَصْبِرَ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ تَصْبِرْ وَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَدْ بَاشَرَتْ سَبَبَ بُطْلَانِ حَقِّهَا بِاخْتِيَارِهَا وَرِضَاهَا فَلَا تَرِثُ.
وَلَوْ آلَى مِنْهَا وَهُوَ مَرِيضٌ وَبَانَتْ بِالْإِيلَاءِ وَهُوَ مَرِيضٌ وَرِثَتْ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي وَقْتِهِ مَعَ شَرَائِطِهِ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الْإِيلَاءِ وَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَهُوَ مَرِيضٌ لَمْ تَرِثْ لِعَدَمِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ الطَّلَاقَ فِي صِحَّتِهِ وَلَمْ يَصْنَعْ فِي الْمَرَضِ شَيْئًا.
وَلَوْ قَذْفَ امْرَأَتَهُ فِي الْمَرَضِ أَوْ لَاعَنَهَا فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ وُجِدَ فِي وَقْتِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِالْإِرْثِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا دَلِيلُ الرِّضَا بِبُطْلَانِ حَقِّهَا لِكَوْنِهَا مُضْطَرَّةً إلَى الْمُطَالَبَةِ بِاللِّعَانِ لِدَفْعِ الشَّيْنِ عَنْ نَفْسِهَا وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي اضْطَرَّهَا بِقَذْفِهِ فَيُضَافَ فِعْلُهَا إلَيْهِ كَأَنَّهُ أَكْرَهَهَا عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ فِي الصِّحَّةِ وَاللِّعَانُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَرِثُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ وُجِدَ مِنْ الزَّوْجِ فِي حَالٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهَا بِالْإِرْثِ وَهُوَ حَالُ الصِّحَّةِ، وَالْمَرْأَةُ مُخْتَارَةٌ فِي اللِّعَانِ فَلَا يُضَافُ إلَى الزَّوْجِ.
وَلَهُمَا أَنَّ فِعْلَ الْمَرْأَةِ يُضَافُ إلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْمُطَالَبَةِ بِاللِّعَانِ لِاضْطِرَارِهَا إلَى دَفْعِ الْعَارِ عَنْ نَفْسِهَا وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَلْجَأَهَا إلَى هَذَا فَيُضَافُ فِعْلُهَا إلَيْهِ كَأَنَّهُ أَوْقَعَ الْفُرْقَةَ فِي الْمَرَضِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الصِّحَّةِ وَالْآخَرُ فِي الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ بِأَنْ قَالَ لَهَا إذَا جَاءَ رَأْسُ شَهْرِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَجَاءَ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا تَرِثُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَرِثُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ قَائِلًا عِنْدَ الشَّرْطِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهُوَ مَرِيضٌ.
(وَلَنَا) أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَصْنَعْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ شَيْئًا لَا السَّبَبَ وَلَا الشَّرْطَ لِيُرَدَّ عَلَيْهِ فِعْلَهُ فَلَمْ يَصِرْ فَارًّا، وَقَوْلُهُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُجْعَلُ مُنَجَّزًا عِنْدَ الشَّرْطِ مَمْنُوعٌ بَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدَّرَ بَاقِيًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَكَذَا إنْ كَانَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ سَوَاءٌ كَانَ مِنْهُ بُدٌّ كَقُدُومِ زَيْدٍ أَوْ لابد مِنْهُ كَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ وَنَحْوِهِمَا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ صُنْعٌ فِي الْمَرَضِ لَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَلَا بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ تَرِثُ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلًا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لابد مِنْهُ كَمَا إذَا قَالَ إنْ صَلَّيْتُ أَنَا الظُّهْرَ فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ شَرْطَ بُطْلَانِ حَقِّهَا فَصَارَ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهَا مُضِرًّا بِهَا لِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ لَا يُعْتَبَرُ فِي مَوْضِعِ التَّعَدِّي وَالضَّرَرِ، كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ نَائِمًا أَوْ خَاطِئًا أَوْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَأَكَلَ طَعَامَ غَيْرِهِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلَمْ يُجْعَلْ مَعْذُورًا فِي مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الَّذِي لابد لَهُ مِنْهُ لِمَا قُلْنَا.
كَذَا هَذَا.
وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ كَدُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِبُطْلَانِ حَقِّهَا حَيْثُ بَاشَرَتْ شَرْطَ الْبُطْلَانِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا لابد لَهَا مِنْهُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ وَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَكَلَامِ أَبَوَيْهَا وَاقْتِضَاءِ الدُّيُونِ مِنْ غَرِيمِهَا فَإِنَّهَا تَرِثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَرِثُ.
وَكَذَا إذَا عَلَّقَ بِدُخُولِ دَارٍ لَا غِنَى لَهَا عَنْ دُخُولِهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ مُبَاشَرَةُ بُطْلَانِ حَقِّهَا وَلَا شَرْطُ الْبُطْلَانِ فَلَا يَصِيرُ فَارًّا كَمَا لَوْ عَلَّقَ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِفِعْلِهَا الَّذِي لَهَا مِنْهُ بُدٌّ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ فِيمَا فَعَلَتْ مِنْ الشَّرْطِ عَامِلَةٌ لِلزَّوْجِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ عَمَلِهَا عَائِدَةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَهَا عَمَّا لَوْ امْتَنَعَتْ عَنْهُ لَحِقَ الزَّوْجَ مَأْثَمٌ فَإِذَا لَمْ تَمْتَنِعْ وَفَعَلَتْ لَمْ يَلْحَقْهُ مَأْثَمٌ فَكَانَتْ مَنْفَعَةُ فِعْلِهَا عَائِدَةً عَلَيْهِ فَجُعِلَ ذَلِكَ فِعْلًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ فَوَجَبَ إبْطَالُ فِعْلِهِ صِيَانَةً لِحَقِّهَا وَمِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَقِيَ مَقْصُورًا عَلَيْهَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ لِلرِّضَا؛ لِأَنَّهَا فَعَلَتْهُ مُضْطَرَّةً لِدَفْعِ الْعُقُوبَةِ عَنْ نَفْسِهَا فِي الْآخِرَةِ لَا بِرِضَاهَا.
وَقَالُوا فِيمَنْ فَوَّضَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ فِي الصِّحَّةِ فَطَلَّقَهَا فِي الْمَرَضِ أَنَّ التَّفْوِيضَ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ عَنْهُ بِأَنْ مَلَّكَهُ الطَّلَاقَ لَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى فَسْخِهِ بَعْدَ مَرَضِهِ صَارَ الْإِيقَاعُ فِي الْمَرَضِ كَالْإِيقَاعِ فِي الصِّحَّةِ.
وَإِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ الْعَزْلُ عَنْهُ فَطَلَّقَ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَهُ عَزْلُهُ بَعْدَ مَرَضِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ التَّوْكِيلَ فِي الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ غَيْرِ لَازِمٍ أَنْ يَكُونَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ.
وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ فِي صِحَّتِهِ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَمْ يَأْتِهَا حَتَّى مَاتَ وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِعَدَمِ إتْيَانِهِ الْبَصْرَةَ فَلَمَّا بَلَغَ إلَى حَالَةٍ وَقَعَ الْيَأْسُ لَهُ عَنْ إتْيَانِهِ الْبَصْرَةَ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَدَمُ وَهُوَ مَرِيضٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ بَاشَرَ شَرْطَ بُطْلَانِ حَقِّهَا فِي الْمِيرَاثِ فَصَارَ فَارًّا فَتَرِثُهُ.
وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَبَقِيَ الزَّوْجُ وَرِثَهَا؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ وَهِيَ زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ لِعَدَمِ شَرْطِ الْوُقُوعِ وَهُوَ عَدَمُ إتْيَانِهِ الْبَصْرَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَأْتِيَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ فَمَاتَتْ وَهِيَ زَوْجَتُهُ فَيَرِثُهَا.
وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ لَمْ تَأْتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَمْ تَأْتِهَا حَتَّى مَاتَ الزَّوْجُ وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ زَوْجُهَا لِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ وُقُوعِهِ؛ لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ حَيَّةً يُرْجَى مِنْهَا الْإِتْيَانُ وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَبَقِيَ الزَّوْجُ لَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا سَبَبُ الْفُرْقَةِ فِي مَرَضِهَا فَلَمْ تَصِرْ فَارَّةً فَلَا يَرِثُهَا.
وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَمْ يُطَلِّقْهَا حَتَّى مَاتَ وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِشَرْطِ عَدَمِ التَّطْلِيقِ مِنْهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَدَمُ إذَا صَارَ إلَى حَالَةٍ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّطْلِيقُ وَهُوَ مَرِيضٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَيَصِيرُ فَارًّا بِمُبَاشَرَةِ شَرْطِ بُطْلَانِ حَقِّهَا فَتَرِثُهُ.
وَلَوْ مَاتَتْ هِيَ وَبَقِيَ الزَّوْجُ لَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ فَارَّةً لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ مِنْهَا فِي مَرَضِهَا فَلَا يَرِثُهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ وَرِثَتْهُ.
وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَبَقِيَ الزَّوْجُ لَمْ يَرِثْهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي صِحَّتِهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ مَرِضَ فَعَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا ثُمَّ مَاتَ وَرِثَتْهُ الْمُطَلَّقَةُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمُبْهَمِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ الْبَيَانِ هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالصَّحِيحُ إذَا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِفِعْلٍ فِي مَرَضِهِ فَإِنَّهَا تَرِثُهُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَقَالَ فِيمَنْ قَالَ فِي صِحَّتِهِ لِأَمَتَيْنِ تَحْتَهُ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَأُعْتِقَتَا ثُمَّ اخْتَارَ الزَّوْجُ أَنْ يُوقِعَ عَلَى إحْدَاهُمَا فِي مَرَضِهِ فَلَا مِيرَاثَ لِلْمُطَلَّقَةِ وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ فِي الْمُعَيَّنِ، وَالْبَيَانُ تَعْيِينُ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ لَا شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ.
وَيُقَالُ إنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ وَالْوُقُوعَ حَصَلَا فِي حَالٍ لَاحِقٍ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَهِيَ حَالَةُ الصِّحَّةِ فَلَا تَرِثُ وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ صَادَفَهَا وَهِيَ أَمَةٌ وَطَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ فَلَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ لِلْحَالِ بَلْ مُعَلَّقٌ وُقُوعُهُ بِالِاخْتِيَارِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْإِيقَاعِ فِي الذِّمَّةِ وَيُقَالُ إنَّهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَرِثَ وَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ تَعَلَّقَ بِشَرْطِ اخْتِيَارِهِ.
وَالصَّحِيحُ إذَا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِفِعْلِهِ فَفَعَلَ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ تَرِثُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلًا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، أَوْ لابد لَهُ مِنْهُ كَمَا إذَا قَالَ وَهُوَ صَحِيحٌ إنْ دَخَلْتُ أَنَا الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ عَلَيْهَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَلَا تَحْرُمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً فَيَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا.
وَلَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا حُرَّةً فَقَالَ فِي صِحَّتِهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَأُعْتِقَتْ الْأَمَةُ ثُمَّ مَرِضَ الزَّوْجُ فَبَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي الْأَمَةِ فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ وَلِلْمُطَلَّقَةِ الْمِيرَاثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ إذَا اخْتَارَ أَنْ يُوقِعَ عَلَى الَّتِي كَانَتْ أَمَةً فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الزِّيَادَاتِ وَقَالَ فِي جَوَابِهَا إنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا.
وَاخْتِلَافُ الْجَوَابِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الطَّرِيقِ فَمَنْ جَعَلَ الطَّلَاقَ وَاقِعًا فِي الْجُمْلَةِ وَجَعَلَ الْبَيَانَ تَعْيِينَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ يَقُولُ لَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَحُرِّمَتْ حُرْمَةً غَلِيظَةً وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَرِثَ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ وَالْوُقُوعَ كُلُّ ذَلِكَ وُجِدَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ بِالتَّوْرِيثِ لِكَوْنِ الزَّوْجِ مُتَّهَمًا فِي الْبَيَانِ لِجَوَازِ أَنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ الْأُخْرَى وَقْتَ الطَّلَاقِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي الْبَيَانِ فَتَرِثُ فَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى الطَّلَاقَ وَاقِعًا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ يَقُولُ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَيْنِ وَقَعَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَلَا تُحَرَّمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً وَتَرِثُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ رَجْعِيٌّ.
وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الْمَرَضِ وَالشَّرْطُ فِي الصِّحَّةِ بِأَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ صَحَّ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَرِثْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَرَضَ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ فَلَمْ يُوجَدْ الْإِيقَاعُ وَلَا الشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ؛ فَكَانَ هَذَا وَالْإِيقَاعُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ سَوَاءً، وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْمَرَضُ وَالصِّحَّةُ سَوَاءً فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ.
وَأَمَّا وَقْتُ الِاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ وَقْتُ مَرَضِ الْمَوْتِ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فلابد مِنْ مَعْرِفَةِ مَرَضِ الْمَوْتِ لِتَفْرِيقِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ هُوَ الَّذِي أَضْنَاهُ الْمَرَضُ وَصَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُحَمُّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ.
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمَرِيضَ الَّذِي إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ كَانَ فَارًّا هُوَ أَنْ يَكُونَ مُضْنًى لَا يَقُومُ إلَّا بِشِدَّةٍ وَهُوَ فِي حَالٍ يُعْذَرُ فِي الصَّلَاةِ جَالِسًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ هُوَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا.
وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُضْنًى لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ إلَّا بِشِدَّةٍ يُخْشَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ.
وَكَذَا إذَا كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ وَكَذَا إذَا كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ غَالِبًا.
وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَرَضَ الْمَوْتِ وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْفَالِجِ وَالسُّلِّ وَالنَّقْرَسِ وَنَحْوِهَا إذَا طَالَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إذَا طَالَ لَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا فَلَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ إلَّا إذَا تَغَيَّرَ حَالُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ التَّغَيُّرِ فَيَكُونُ حَالَ التَّغَيُّرِ مَرَضَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَ يُخْشَى مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا فَيَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ.
وَكَذَا الزَّمِنُ وَالْمُقْعَدُ وَيَابِسُ الشِّقِّ.
وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْمَحْصُورِ وَالْوَاقِفِ فِي صَفِّ الْقِتَالِ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فَحُبِسَ لِيُقْتَلَ أَنَّهُ كَالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْغَالِبُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْمَوْتَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا غَالِبًا لِكَثْرَةِ أَسْبَابِ الْخَلَاصِ وَلَوْ قَدِمَ لِيَقْتُلَ أَوْ بَارَزَ قِرْنَهُ وَخَرَجَ مِنْ الصَّفِّ فَهُوَ كَالْمَرِيضِ إذْ الْغَالِبُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ الْهَلَاكُ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَرِيضِ إذَا مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ.
وَلَوْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ إلَّا إذَا هَاجَتْ الْأَمْوَاجُ فَيَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْهَا الْمَوْتُ غَالِبًا وَلَوْ أُعِيدَ الْمُخْرَجُ إلَى الْقَتْلِ أَوْ إلَى الْحَبْسِ أَوْ إذَا رَجَعَ الْمُبَارِزُ بَعْدَ الْمُبَارِزَةِ إلَى الصَّفِّ أَوْ سَكَنَ الْمَوْجُ صَارَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ كَالْمَرِيضِ إذَا بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ وَالْمَرْأَةُ إذَا مَا أَخَذَهَا الطَّلْقُ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ إذَا مَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَإِذَا سَلِمَتْ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ كَمَا إذَا كَانَتْ مَرِيضَةً ثُمَّ صَحَّتْ.
وَلَوْ طَلَّقَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ صَحَّ وَقَامَ مِنْ مَرَضِهِ وَكَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَقْوَى عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا ثُمَّ نُكِسَ فَعَادَ إلَى حَالَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ تَرِثُهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وَقْتَ تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِالْإِرْثِ وَوَقْتَ الْمَوْتِ وَقْتُ ثُبُوتِ الْإِرْثِ، وَالْمَرَضُ قَدْ أَحَاطَ بِالْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا فَانْقِطَاعُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَلَا وَقْتَ الْإِرْثِ.
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ بَعْدَ الْمَرَضِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ فَلَمْ يُوجَدْ الطَّلَاقُ فِي حَالِ الْمَرَضِ فَلَا تَرِثُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الطَّلَاقَ الْمُبْهَمَ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الطَّلَاقِ مُضَافًا إلَى مَجْهُولَةٍ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ إمَّا إنْ كَانَتْ أَصْلِيَّةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ طَارِئَةً: أَمَّا.
الْجَهَالَةُ الْأَصْلِيَّةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الطَّلَاقِ مِنْ الِابْتِدَاءِ مُضَافًا إلَى الْمَجْهُولِ وَجَهَالَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ تَكُونُ لِمُزَاحَمَةِ غَيْرِهِ إيَّاهُ فِي الِاسْمِ وَالْمُزَاحِمُ إيَّاهُ فِي الِاسْمِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُحْتَمِلًا لَهُ، وَالْمُحْتَمِلُ لِلطَّلَاقِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ طَلَاقَهُ أَوْ لَا يَمْلِكُ طَلَاقَهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ طَلَاقَهُ صَحَّتْ الْإِضَافَةُ بِالْإِجْمَاعِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ لِنِسَائِهِ الْأَرْبَعِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ يَقُولَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا.
وَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ أَعْنِي قَوْلَهُ لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرِ عَيْنٍ، وَاخْتَارَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا وَبَيَانُ الطَّلَاقِ فِيهِمَا تَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ.
وَيُقَالُ إنَّ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْبَيَانِ مَعْنًى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْحَالِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْبَيَانِ، وَالِاخْتِيَارُ لَا لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ وَغَيْرِهِ غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ الشَّرْطَ يَدْخُلُ عَلَى السَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَهَاهُنَا يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ لَا عَلَى السَّبَبِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِذَا اخْتَارَ طَلَاقَ إحْدَاهُمَا فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهَا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِالْكَلَامِ السَّابِقِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْوُقُوعِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ كَأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِهِ نَصًّا فَقَالَ إنْ اخْتَرْت طَلَاقَ إحْدَاكُمَا فَهِيَ طَالِقٌ.
وَيُقَالُ إنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالْمَسَائِلُ مُتَعَارِضَةٌ فِي الظَّاهِرِ بَعْضُهَا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَبَعْضُهَا يَنْصُرُ الْقَوْلَ الثَّانِي وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَى ذَلِكَ هاهنا وَنَذْكُرُ وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَتَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَتَخْرِيجَ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَيَانُ إظْهَارٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَسَائِلَ تُخَرَّجُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ كَلَامٌ لَا يُعْقَلُ بَلْ هُوَ مُحَالٌ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ وَنَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ.
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَنَقُولُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ يَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْإِبْهَامَ مَلَكَ التَّعْيِينَ.
وَلَوْ خَاصَمَتَاهُ وَاسْتَعْدَتَا عَلَيْهِ الْقَاضِي حَتَّى يُبِينَ، أَعْدَى عَلَيْهِ وَكَلَّفَهُ الْبَيَانَ.
وَلَوْ امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَقًّا إمَّا اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ النِّكَاحِ مِنْهُ وَإِمَّا التَّوَصُّلُ إلَى زَوْجٍ آخَرَ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يَجِبُ إيفَاؤُهُ عِنْدَ طَلَبِهِ وَإِذَا امْتَنَعَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى الْإِيفَاءِ وَذَلِكَ بِالْبَيَانِ هاهنا فَكَانَ الْبَيَانُ حَقَّهَا لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى حَقِّهَا، وَوَسِيلَةُ حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ، وَالْجَبْرُ عَلَى الْبَيَانِ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ لَوْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْبَيَانِ لَمَا أُجْبِرَ إذْ الْحَالِفُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَحْصِيلِ الشَّرْطِ وَلِأَنَّ الْبَيَانَ إظْهَارُ الثَّابِتِ، وَإِظْهَارُ الثَّابِتِ وَلَا ثَابِتَ مُحَالٌ، ثُمَّ الْبَيَانُ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ أَمَّا النَّصُّ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ إيَّاهَا عَنَيْت أَوْ نَوَيْت أَوْ أَرَدْت أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى هَذَا.
وَلَوْ قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا عَيْنًا بِأَنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ أَرَدْت بِهِ بَيَانَ الطَّلَاقِ الَّذِي لَزِمَنِي لَا طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ يَحْتَمِلُ الْبَيَانَ؛ لِأَنَّهُ إنْ جُعِلَ إنْشَاءً فِي الشَّرْعِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ فَيَحْتَمِلُ الْبَيَانَ إذْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ وَهَذَا أَيْضًا يَنْصُرُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي إرَادَةِ الْبَيَانِ لِلْوَاقِعِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَنَحْوُ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ يَقُولَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَيَانِ نَحْوُ أَنْ يَطَأَ إحْدَاهُمَا أَوْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَحْلِفَ بِطَلَاقِهَا أَوْ يُظَاهِرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمَنْكُوحَةِ فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ تَعْيِينًا لِهَذِهِ بِالنِّكَاحِ.
وَإِذَا تَعَيَّنَتْ هِيَ لِلنِّكَاحِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ.
وَإِذَا كُنَّ أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَاتُ لِبَيَانِ الطَّلَاقِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ بِأَنْ يَطَأَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ فَتَتَعَيَّنُ الرَّابِعَةُ لِلطَّلَاقِ أَوْ يَقُولَ هَذِهِ مَنْكُوحَةٌ وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ إنْ كُنَّ أَرْبَعًا وَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا تَتَعَيَّنُ الثَّالِثَةُ لِلطَّلَاقِ بِوَطْءِ الثَّانِيَةِ أَوْ بِقَوْلِهِ لِلثَّانِيَةِ: هَذِهِ مَنْكُوحَةٌ.
وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ طَلُقَتْ الْبَاقِيَةُ؛ لِأَنَّ الَّتِي مَاتَتْ خَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ الْبَيَانِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ الْبَيَانِ وَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ الطَّلَاقِ فَخَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ الْبَيَانِ فَتَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَةُ لِلطَّلَاقِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَوْ كَانَ وَقَعَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَمَا افْتَرَقَتْ الْحَالُ فِي الْبَيَانِ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ إذْ هُوَ إظْهَارُ مَا كَانَ، فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيَرُدُّ الْآخَرَ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ أَنَّهُ لَا يُتَعَيَّنُ الْبَاقِي مِنْهُمَا لِلْبَيْعِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْمَيِّتُ لِلْبَيْعِ وَيَصِيرُ الْمُشْتَرِي مُخْتَارًا لِلْبَيْعِ فِي الْمَيِّتِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْبَاقِي إلَى الْبَائِعِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُبْطِلُ لِلْخِيَارِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَهُوَ حُدُوثُ عَيْبٍ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الشِّرَاءِ وَهُوَ الْمَرَضُ إذْ لَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ عَنْ مَرَضٍ قُبَيْلَ الْمَوْتِ عَادَةً، وَحُدُوثُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارٌ مُبْطِلٌ لِلْخِيَارِ فَبَطَلَ الْخِيَارُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَدَخَلَ الْعَبْدُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلرَّدِّ ضَرُورَةً، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي الْمُطَلَّقَةِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْخِيَارِ.
وَلَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ فَقَالَ الزَّوْجُ إيَّاهَا عَنَيْت لَمْ يَرِثْهَا وَطَلُقَتْ الْبَاقِيَةُ؛ لِأَنَّهَا كَمَا مَاتَتْ تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَةُ لِلطَّلَاقِ فَإِذَا قَالَ عَنَيْت الْأُخْرَى فَقَدْ أَرَادَ صَرْفَ الطَّلَاقِ عَنْ الْبَاقِيَةِ فَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ وَيُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ الْإِرْثِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقَّهُ وَالْإِنْسَانُ فِي إقْرَارِهِ بِإِبْطَالِ حَقِّ نَفْسِهِ مُصَدَّقٌ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَتَا جَمِيعًا أَوْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ عَنَيْت الَّتِي مَاتَتْ أَوَّلًا لَمْ يَرِثْ مِنْهُمَا، أَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِتَعَيُّنِهَا لِلطَّلَاقِ بِمَوْتِ الْأُولَى.
وَأَمَّا مِنْ الْأُولَى فَلِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مِيرَاثِهَا وَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى نَفْسِهِ.
وَلَوْ مَاتَتَا جَمِيعًا بِأَنْ سَقَطَ عَلَيْهِمَا حَائِطٌ أَوْ غَرِقَتَا يَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مِيرَاثِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حَالٍ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ فِي حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ كَمَا هُوَ أَصْلُنَا فِي اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ.
وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَتَا جَمِيعًا أَوْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى لَكِنْ لَا يُعْرَفُ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِمَا مَعًا.
وَلَوْ مَاتَتَا مَعًا ثُمَّ عَيَّنَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا وَقَالَ إيَّاهَا عَنَيْت لَا يَرِثُ مِنْهَا وَيَرِثُ مِنْ الْأُخْرَى نِصْفَ مِيرَاثِ زَوْجٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا مَاتَتَا فَقَدْ اسْتَحَقَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مِيرَاثٍ لِمَا بَيَّنَّا فَإِذَا أَرَادَ إحْدَاهُمَا عَيْنًا فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ مِيرَاثِهَا وَهُوَ النِّصْفُ فَيَرِثُ مِنْ الْأُخْرَى النِّصْفَ.
وَلَوْ ارْتَدَّتَا جَمِيعًا قَبْلَ الْبَيَانِ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهُمَا وَبَانَتَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبِينَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي إحْدَاهُمَا أَمَّا الْبَيْنُونَةُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ زَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِالرِّدَّةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِذَا زَالَ الْمِلْكُ لَا يَمْلِكُ الْبَيَانَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ قَبْلَ الْبَيَانِ إذْ لَوْ وَقَعَ لَصَحَّ الْبَيَانُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَعْيِينَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ فَلَا تَفْتَقِرُ صِحَّتُهُ إلَى قِيَامِ الْمِلْكِ.
وَلَوْ كَانَتَا رَضِيعَتَيْنِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا قُبَيْلَ الْبَيَانِ بَانَتَا، وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَاهُمَا لَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً فَلَا يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِالرَّضَاعِ نِكَاحًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَبِينَا وَقَدْ بَانَتَا وَإِذَا بَانَتَا بِالرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا لِمَا قُلْنَا وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا وَلَوْ بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ.
كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى لَوْ رَاجَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ وَكَذَا إذَا بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا وَقَدْ كَانَتْ حَاضَتْ قَبْلَ الْبَيَانِ ثَلَاثَ حِيَضٍ لَا تَعْتَدُّ بِمَا حَاضَتْ قَبْلَهُ وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا قَبْلَ الْبَيَانِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَجِبُ الْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْإِرْسَالِ وَتَنْقَضِي إذَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ نَازِلٌ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ.
وَمِنْ هَذَا حَقَّقَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْخِلَافِ بِمَسْأَلَةِ الْعِدَّةِ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَالْأُخْرَى طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَحَاضَتْ إحْدَاهُمَا ثَلَاثَ حِيَضٍ بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ وَالْأُخْرَى طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُطَلَّقَةٌ إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا بِوَاحِدَةٍ وَالْأُخْرَى بِثَلَاثٍ فَإِذَا حَاضَتْ إحْدَاهُمَا ثَلَاثَ حِيَضٍ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا بِيَقِينٍ فَخَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ بَيَانِ الثَّلَاثِ فِيهَا فَتَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلثَّلَاثِ ضَرُورَةً.
وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ فَقَالَ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْرَى جَازَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَدْخُولًا بِهِنَّ فَتَزَوَّجَ أُخْرَى لَمْ يَجُزْ وَهَذَا حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا فِي إحْدَاهُنَّ لَمَا جَازَ نِكَاحُ امْرَأَةٍ أُخْرَى فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ نِكَاحَ الْخَامِسَةِ وَلَجَازَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ نِكَاحَ الرَّابِعَةِ وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ دَلَّ أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا قَبْلَ الْبَيَانِ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي الصِّحَّةِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ بَيَّنَ فِي إحْدَاهُمَا فِي مَرَضِهِ يَصِيرُ فَارًّا؛ وَتَرِثُهُ الْمُطَلَّقَةُ مَعَ الْمَنْكُوحَةِ وَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَهَذَا حُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَوْ كَانَ وَاقِعًا فِي إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ لَكَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِيرَ فَارًّا، كَمَا إذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا عَيْنًا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: حُكْمُ الْمَهْرِ، وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ، وَحُكْمُ الْعِدَّةِ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ:.
أَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَإِنْ كَانَتَا مَدْخُولًا بِهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَهْرِ مَنْكُوحَةً كَانَتْ أَوْ مُطَلَّقَةً أَمَّا الْمَنْكُوحَةُ فَلَا شَكَّ فِيهَا وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَتَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِمَا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً فَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً تَسْتَحِقُّ النِّصْفَ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ قَدْ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلُّ الْمَهْرِ فِي حَالٍ وَالنِّصْفُ فِي حَالٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ هَذَا إذَا كَانَ قَدْ سَمَّى لَهُمَا مَهْرًا فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّ لَهُمَا مَهْرًا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَمُتْعَةٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَلَهَا كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَهَا كَمَالُ الْمُتْعَةِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَحِقُّ كَمَالَ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي حَالٍ وَلَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي حَالٍ.
وَكَذَا الْمُتْعَةُ فَتَتَنَصَّفُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَمُتْعَةٌ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَنِصْفُ مُتْعَةٍ وَإِنْ كَانَ سَمَّى لِإِحْدَاهُمَا مَهْرًا وَلَمْ يُسَمِّ لِلْأُخْرَى فَلِلْمُسَمَّى لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ وَلِلَّتِي لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَهَا إذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَلَهَا جَمِيعُ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَيَتَنَصَّفُ كُلُّ ذَلِكَ فَيَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى.
وَاَلَّتِي لَمْ يُسَمِّ لَهَا إنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَلَهَا جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَيْسَ لَهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ شَيْءٌ فَاسْتَحَقَّتْ فِي حَالٍ وَلَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْهُ فِي حَالٍ فَيَكُونُ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهَا نِصْفُ الْمُتْعَةِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَيْسَ لَهَا إلَّا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَلَهَا كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَهَا كَمَالُ الْمُتْعَةِ فَكَانَ لَهَا كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي حَالٍ وَكَمَالُ الْمُتْعَةِ فِي حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا وَنِصْفُ مُتْعَتِهَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ إذَا وَجَبَ لَهَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ بَدَلٌ عَنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ لَا يَجْتَمِعَانِ هَذَا إذَا كَانَتْ الْمُسَمَّى لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ مَعْلُومَةً فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً فَلَهَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا سَوَاءً وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُسَمَّى لَهَا الْمَهْرُ فَيَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ الْمُسَمَّى لَهَا الْمَهْرُ فَيَكُونُ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ فَفِي حَالٍ يَجِبُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ وَفِي حَالٍ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ فَيَتَنَصَّفُ كُلُّ ذَلِكَ فَيَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ مَهْرٍ وَثُمُنُ مَهْرٍ نِصْفُ مَهْرِ الْمُسَمَّى وَثُمُنُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ نِصْفُ الْمُتْعَةِ أَيْضًا وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ فِي إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَقْتَ الْإِرْسَالِ حَيْثُ شَاعَ فِيهِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ إذْ الْوَاقِعُ يَشِيعُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَهُوَ أَنَّهُمَا يَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ بِيَقِينٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَكُونُ قَدْرُ مِيرَاثِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ امْرَأَةٌ أُخْرَى سِوَاهُمَا لَمْ يُدْخِلْهَا فِي الطَّلَاقِ فَلَهَا نِصْفُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ وَلَهُمَا النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهَا إلَّا وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا وَالْأُخْرَى مُطَلَّقَةٌ فَكَانَ لَهَا النِّصْفُ ثُمَّ النِّصْفُ الثَّانِي يَكُونُ بَيْنَ الْأُخْرَيَيْنِ نِصْفَيْنِ إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى.
وَأَمَّا حُكْمُ الْعِدَّةِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ وَالْأُخْرَى مُطَلَّقَةٌ وَعَلَى الْمَنْكُوحَةِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ لَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ لَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَدَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِ الْوُجُوبِ.
وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا وَمِنْ الِاحْتِيَاطِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ طَلَاقَهَا لَا تَصِحُّ الْإِضَافَةُ بِالْإِجْمَاعِ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ فَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ حَتَّى لَا تَطْلُقَ زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِنْشَاءِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْإِخْبَارِ وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْإِخْبَارِ لَصَحَّ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّ إحْدَاهُمَا طَالِقٌ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا أَخْبَرَ وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْإِنْشَاءِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا وَهِيَ الْأَجْنَبِيَّةُ لَا تَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ لِعَدَمِ النِّكَاحِ وَلَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ أَوْلَى.
هَذَا إذَا كَانَ الْمُزَاحِمُ فِي الِاسْمِ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نَحْوُ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ حَجَرٍ أَوْ بَهِيمَةٍ فَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ فَهَلْ تَصِحُّ الْإِضَافَةُ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ تَصِحُّ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى امْرَأَتِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا تَصِحُّ وَلَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَنْكُوحَةِ وَغَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ يُوجِبُ شَكًّا فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ وَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ فَلَا يَقَعُ مَعَ الشَّكِّ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ مَنْ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فِي الِاسْمِ وَأَضَافَ الطَّلَاقَ إلَيْهِمَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لَا مَنْ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الطَّلَاقِ إلَى مَنْ لَا يَحْتَمِلُهُ سَفَهٌ؛ فَانْصَرَفَ مُطْلَقُ الْإِضَافَةِ إلَى زَوْجَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلطَّلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلطَّلَاقِ فِي الْحَالِ إخْبَارًا إنْ كَانَتْ لَا تَحْتَمِلُهُ إنْشَاءً، وَفِي الصَّرْفِ إلَى الْإِخْبَارِ صِيَانَةُ كَلَامِهِ عَنْ اللَّغْوِ فَصُرِفَ إلَيْهِ.
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَبَيْنَ رَجُلٍ فَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ لَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَا تَطْلُقَ زَوْجَتُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَصِحُّ وَتَطْلُقُ زَوْجَتُهُ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنَا مِنْكِ طَالِقٌ لَمْ يَصِحَّ فَصَارَ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ حَجَرٍ أَوْ بَهِيمَةٍ وَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرَّجُلَ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فِي الْجُمْلَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنَا مِنْكِ بَائِنٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَصِحُّ وَالْإِبَانَةُ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ نَوْعَانِ رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ حُمِلَ كَلَامُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ وَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ.
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ امْرَأَةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَأَشَارَ إلَى الْمَيِّتَةِ لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا تَطْلُقَ زَوْجَتُهُ الْحَيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَقَدْ كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلطَّلَاقِ قَبْلَ مَوْتِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا الْجَهَالَةُ الطَّارِئَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مُضَافًا إلَى مَعْلُومَةٍ ثُمَّ تُجْهَلُ كَمَا إذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا مِنْ نِسَائِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ نَسِيَ الْمُطَلَّقَةَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ أَحْكَامِهِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ طَالِقٌ قَبْلَ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى مُعَيَّنَةٍ وَإِنَّمَا طَرَأَتْ الْجَهَالَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْمُعَيَّنَةُ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ الْبَيَانُ هاهنا إظْهَارًا أَوْ تَعْيِينًا لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا عَلَى مَا مَرَّ أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْلَمَ الَّتِي طَلَّقَ فَيَجْتَنِبَهَا؛ لِأَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ بِيَقِينٍ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ فَلَوْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْمُحَرَّمَةِ فَرُبَّمَا وَطِئَ الْمُحَرَّمَةَ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَطْلُقَ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِالتَّحَرِّي وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحَرِّي، وَالْفَرْجُ لَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحَرِّي بِخِلَافِ الذَّكِيَّةِ إذَا اخْتَلَطَتْ بِالْمَيِّتَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي الْجُمْلَةِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلذَّكِيَّةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ مِمَّا تُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِنْ جَحَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةَ فَاسْتَعْدَيْنَ عَلَيْهِ الْحَاكِمَ فِي النَّفَقَةِ وَالْجِمَاعِ أَعْدَى عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ عَلَى بَيَانِ الَّتِي طَلَّقَ مِنْهُنَّ وَأَلْزَمَهُ النَّفَقَةَ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِيفَاءِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ يُحْبَسُ كَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى قَضَائِهِ فَيَحْبِسُهُ الْحَاكِمُ وَيَقْضِي بِنَفَقَتِهِنَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَإِنْ ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّهَا هِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهَا وَجَحَدَ الزَّوْجُ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لِلنُّكُولِ.
وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ، وَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَالْإِقْرَارَ فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ الطَّلَاقَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَوْ أَقَرَّ بِهِ وَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَإِنْ حَلَفَ لَهُنَّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْبَيَانُ بَلْ لابد أَنْ يُبَيِّنَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَرْتَفِعُ بِالْيَمِينِ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَيُؤْخَذُ بِالْبَيَانِ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ إذَا كَانَتَا امْرَأَتَيْنِ فَحَلَفَ لِلْأُولَى طَلُقَتْ الَّتِي لَمْ يَحْلِفْ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ لِلْأُولَى أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةً وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لِلْأُولَى طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ بِالنُّكُولِ بَذَلَ الطَّلَاقَ لَهَا أَوْ أَقَرَّ بِهِ فَإِنْ تَشَاحَنَا عَلَى الْيَمِينِ حَلَفَ لَهُمَا جَمِيعًا بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَى وَيُمْكِنُ إيفَاءُ حَقِّهِمَا فِي الْحَلِفِ فَيَحْلِفُ لَهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا جَمِيعًا حُجِبَ عَنْهُمَا حَتَّى يُبَيِّنَ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا قَدْ بَقِيَتْ مُطَلَّقَةً بَعْدَ الْحَلِفِ إذْ الطَّلَاقُ لَا يَرْتَفِعُ بِالْيَمِينِ فَكَانَتْ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةً فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهَا إلَى أَنْ يُبَيِّنَ فَإِنْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا فَالَّتِي لَمْ يَطَأْهَا مُطَلَّقَةٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِالْبَيَانِ فَكَانَ الْوَطْءُ بَيَانًا أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ مَنْكُوحَةٌ فَتَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ، كَمَا لَوْ قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ وَطِئَ إحْدَاهُمَا.
وَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا فَنَسِيَهَا وَلَمْ يَتَذَكَّرْ فَيَنْبَغِي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُطَلِّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً وَيَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَتَبِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُنَّ فَيَقْرَبَهُنَّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ بِيَقِينٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِالتَّحَرِّي؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّحَرِّي فِي الْفَرْجِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُنَّ بِغَيْرِ بَيَانٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِنَّ بِإِبْطَالِ حُقُوقِهِنَّ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ وَمَنْ غَيْرِهِ بِالنِّكَاحِ إذْ لَا يَحِلُّ لَهُنَّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً فَيُوقِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً وَيَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَتَبِينَ وَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ وَبِنَّ فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكُلَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ مُطَلَّقَةٌ ثَلَاثَةً بِيَقِينٍ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ كُلُّهُنَّ بِزَوْجٍ آخَرَ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا هِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِذَا تَزَوَّجْنَ بِغَيْرِهِ فَقَدْ حَلَلْنَ بِيَقِينٍ فَلَوْ أَنَّهُ تَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بِغَيْرِهِ جَازَ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالْبَيَانِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى نِكَاحِهَا بَيَانًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُطَلَّقَةٍ بَلْ هِيَ مَنْكُوحَةٌ.
وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ جَازَ لِمَا قُلْنَا وَتَعَيَّنَتْ الرَّابِعَةُ لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ.
وَكَذَا إذَا كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّا نَحْمِلُ نِكَاحَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا عَلَى الْجَوَازِ وَلَا جَوَازَ لَهُ إلَّا بِتَعْيِينِ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ فَتَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةً هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فَإِنْ كَانَ بَائِنًا يَنْكِحُهُنَّ جَمِيعًا نِكَاحًا جَدِيدًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا يُرَاجِعُهُنَّ جَمِيعًا.
وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فَمَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قَبْلَ الْبَيَانِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَطَأَ الْبَاقِيَاتِ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةُ فِيهِنَّ، وَإِنْ وَطِئَهُنَّ قَبْلَ الْبَيَانِ جَازَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ يُحْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ مَا أَمْكَنَ وَهَاهُنَا أَمْكَنَ بِأَنْ يُحْمَلَ فِعْلُهُ عَلَى أَنَّهُ تَذَكَّرَ أَنَّ الْمَيِّتَةَ كَانَتْ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ إذْ الْبَيَانُ فِي الْجَهَالَةِ الطَّارِئَةِ إظْهَارٌ وَتَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بِلَا خِلَافٍ فَلَا تَكُونُ حَيَاتُهَا شَرْطًا لِجَوَازِ بَيَانِ الطَّلَاقِ فِيهَا وَإِذَا تَعَيَّنَتْ هِيَ لِلطَّلَاقِ تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَاتُ لِلنِّكَاحِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهِنَّ بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذَا مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ يَقَعُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيَانُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَالْمَحَلُّ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَقْتَ الْبَيَانِ ثُمَّ الْبَيَانُ ضَرْبَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ: أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُطَلَّقَةَ نَصًّا فَيَقُولُ هَذِهِ هِيَ الَّتِي كُنْت طَلَّقْتُهَا.
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ يَقُولَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَيَانِ، مِثْلُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً أَوْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَحْلِفَ بِطَلَاقِهَا أَوْ يُظَاهِرَ مِنْهَا فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ أَوْ قَوْلَهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِتَعْيِينِ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ تَعْيِينًا لِلْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةً.
وَكَذَا إذَا قَالَ هَذِهِ مَنْكُوحَةٌ، وَأَشَارَ إلَى إحْدَاهُمَا تَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةً.
وَكَذَا إذَا قَالَ هَذِهِ مَنْكُوحَةٌ، وَإِنْ كُنَّ أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَاتُ لِكَوْنِ الْمُطَلَّقَةُ فِيهِنَّ فَتَتَعَيَّنُ بِالْبَيَانِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعًا وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِنَّ فَتَزَوَّجَ أُخْرَى قَبْلَ الْبَيَانِ جَازَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ فِي إحْدَاهُنَّ فَكَانَ هَذَا نِكَاحَ الرَّابِعَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَمْسِ فَيَجُوزُ.
وَإِنْ كُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ لِقِيَامِ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ لِقِيَامِ الْعِدَّةِ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الصِّحَّةِ فَبَيَّنَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ هاهنا إظْهَارٌ وَتَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَالْوُقُوعُ كَانَ فِي الصِّحَّةِ فَلَا تَرِثُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَأَحْكَامُهُ ثَلَاثَةٌ: حُكْمُ الْمَهْرِ، وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ، وَحُكْمُ الْعِدَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَالْفَصْلَانِ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَمَا عَرَفْت مِنْ الْجَوَابِ فِي الْأَوَّلِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الثَّانِي، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.